الطلاق بين المحتوى الإخباري ومنصات التواصل بدأ منذ سنوات، تحديداً في نهاية عام 2016، أي مع فوز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على منافسته مرشحة الحزب الديموقراطي هيلاري كلينتون. عناوين الصحف الغربية والتقارير الإعلامية، كانت متأكدة من فوز كلينتون بشكل غير اعتيادي إلى أن حصل العكس. ترك ذلك نوعاً من خيبة الأمل لدى الجمهور الغربي في علاقته مع الإعلام. ثمّ تعاملت منصات التواصل الاجتماعي بشكل عنيف مع تناقل الأخبار المضلّلة أثناء فترة الوباء، واستهدفت الخوارزميات المُسلّحة الجميع بوقف الحساب أو المنع من النشر من دون الاستجابة لطلبات المستخدمين لإعادة النظر.
(نور أس صافا أنيق ــ بنغلادش)

وجد نصف الأميركيين ممن انتخبوا ترامب أنّ السوشال ميديا صارت خصماً لهم، بعدما أسكتت حسابات مرشّحهم في العالم الافتراضي. منذ انتخابه رئيساً عام 2016، لم يترك ترامب فرصة إلا وكرر فيها عبارة أنّ «الإعلام مزيّف»، وأنّه مجرد ذراع للحزب الديموقراطي. على خطٍ موازٍ، أعاد المستخدمون حول العالم اكتشاف الفيديو مع تعاظم تطبيق تيك توك وهوس الجيل الشاب به وهجرة هؤلاء منصات التواصل التقليدية صوب منصّات وتطبيقات تشبههم أكثر. نتيجة لهذه العوامل كلّها، قرّر عمالقة التواصل مثل ميتا مع كلّ منصاتها التي تحوي أكثر من ثلاثة مليار مستخدم، الابتعاد عن المحتوى الإخباري كونه صار مصدر صداع. صحيح أنّ غالبية هذه الأحداث حصلت في الولايات المتحدة، إلا أنّ منصات التواصل بغالبيتها أميركية، وعندما تغيّر سياساتها انطلاقاً مما يحصل في هذا البلد، تُصبح السياسة الجديدة هي المُطبّقة على امتداد المعمورة.

وداعاً لأموال الإعلانات
قبل 20 عاماً، كان كلّ من يريد الحصول على الأخبار عبر الإنترنت يدخل مباشرة إلى الموقع الإلكتروني للصحيفة أو للوسيلة الإعلامية التي يريدها. مع بداية عصر منصات التواصل بعد ظهور فايسبوك عام 2004 ثم تويتر عام 2006، وإدمان الناس على هذه المنصات واعتبارهم أنّها هي الويب بحدّ ذاته، صارت هذه الشبكات مثل متجر كبير يعرض لنا كل شيء. يمكن لنا نشر الصور والفيديوات والنصوص وروابط لموسيقى على يوتيوب أو روابط إخبارية من أي موقع. وهنا حصل خطأ استراتيجي. رأت وسائل الإعلام أنّ منصات التواصل متجر يمكن الاعتماد عليه لتصريف إنتاجها من مقالات وتقارير وتحقيقات، إمّا عبر إنشاء صفحات خاصة لها على منصة التواصل، أو عبر نشر المستخدمين للمقالات والنصوص التي يريدون مشاركتها مع دائرة معارفهم. اتكلت وسائل الإعلام على السوشال ميديا، فيما تعاظم دور الأخيرة وصارت وسائل الإعلام التقليدية بحاجة إليها. صحيح أنّ الميديا بقيت موجودة على المواقع الإلكترونية، إلا أنّها لم تطوّر أو تستثمر في طرق أخرى بعيداً من منصات التواصل. في عالم الويب، كلما دخل أشخاص أكثر إلى الموقع الإلكتروني الذي تملكه وكلما أمضوا وقتاً أطول فيه، درّ هذا أموالاً أكثر من الإعلانات. وفي فترة العصر الذهبي للعلاقة بين منصات التواصل ووسائل الإعلام، ظهرت العديد من المواقع الإخبارية التي تعتمد على السيناريو الآتي: إنشاء موقع إلكتروني إخباري، تصريف الإنتاج عبر منصات التواصل، دخول القراء من منصات التواصل إلى الموقع الإلكتروني الإخباري، وبالتالي حصول القائمين على الموقع على أموال من الإعلانات.


في تقرير نشره في تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، كشف موقع Similar Web أنّه بين آب (أغسطس) 2022 والشهر نفسه من عام 2023، انخفضت حركة الإحالة العالمية من فايسبوك إلى المواقع الإخبارية الرائدة بنسبة 62 في المئة. مثلاً، سجّلت صحيفة «ذا صن» انخفاضاً بنسبة 84 في المئة، وموقع Business Insider بنسبة 80 في المئة، وصحيفة «ذا غارديان» بنسبة 79 في المئة، وموقع «ذا دايلي مايل» بنسبة 77 في المئة، وموقع «ذا ميرور» 75 في المئة، وموقع «باز فيد» بنسبة 72 في المئة، وصحيفة «نيويورك تايمز» بنسبة 66 في المئة، وموقع شبكة «سي أن أن» بنسبة 66 في المئة، وموقع «ياهو نيوز» بنسبة 66 في المئة... ما يعني أنّ اعتماد هذه الوسائل الإعلامية على منصات التواصل التقليدية (فايسبوك، X/ تويتر سابقاً...) لجلب أموال من الإعلانات انتهى.

لغة الجيل Z
رغم ابتعاد منصات التواصل عن المحتوى الإخباري، وجد تقرير حديث نشره موقع «بلومبيرغ» في التاسع من شباط (فبراير) الحالي، أنّ الشباب من فئة الجيل Z، يستقون الأخبار والمعلومات من منصات التواصل بشكل يتزايد يوماً بعد يوم. لكن ليس كل المنصات، بل إنّ الأمور تقريباً محصورة بتيك توك وإنستغرام ويوتيوب. واقع غريب جداً. على سبيل المثال، يقوم حساب على تيك توك لشخص يدعى ديلان بايج، بجمع الأخبار يومياً ويعرضها بشكل مثير على حسابه، فصار أبرز حساب على المنصة مع تخطيه يومياً حدود المليون مشاهدة، فيما يصل مجموعها أحياناً إلى 54 مليون مشاهدة! كما يتمتع بأكثر من عشرة ملايين متابع على تيك توك. الجدير بالذكر هنا أنّه لا يفعل شيئاً سوى إعادة نشر أخبار عمل صحافيون وإعلاميون عليها. وفعلياً، لا شيء مميزاً فيه، سوى أنّه شاب يقدم الأخبار بلغة يفهمها الجيل Z التي ينتمي إليها أيضاً، أي إنّه يستخدم مصطلحات شائعة بين أفراد جيله، حتى إنّ تعابير وجهه وحركات جسده تشبه حركاتهم، ويضع الأخبار المهمة التي غالباً ما تأتي على شكل نصوص جافة، في فيديو مبهر وسريع.

الحلول
لا تزال الفرصة سانحة، أقلّه قبل إطلاق الميتافيرس، ذلك العالم الرقمي الذي سندخله عبر نظارات الواقع الافتراضي والمعزّز. في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى سرعة انتشار جهاز آبل «فيجين برو» الجديد، وهو نظارة واقع افتراضي ومعزز (الاثنين معاً) بين المستخدمين في الولايات المتحدة في أقل من شهر. أمر بالغ الأهمية، لا يجب التغاضي عنه، إذ حتى هذه اللحظة، تستخدم غالبية الناس الهواتف الذكية أو الحواسيب للدخول إلى الإنترنت، لكن قريباً سيدخل جزء كبير من هؤلاء الإنترنت عبر النظارات. هذا يعني أن هناك من يفكر اليوم في كيفية نشر المحتوى الإخباري في عالم رقمي ثلاثي الأبعاد. بالعودة إلى الواقع الحالي، تفيدنا الأرقام الآتية من التقارير بأنّ فايسبوك وX منصتان منتهيتا الصلاحية، بينما يتعيّن تفعيل استخدام المنصات القائمة على الوسائط البصرية مثل تيك توك وإنستغرام ويوتيوب.
هناك من يفكّر اليوم في كيفية نشر المحتوى الإخباري في عالم رقمي ثلاثي الأبعاد

لا يعني هذا التوقف عن كتابة المقالات أو النصوص، لكن أن توضع أيضاً في قالب بصري. كذلك، تؤمّن تقنيات البرمجة الحديثة إمكانية إنشاء مواقع إلكترونية تفاعلية تجعل الدخول إليها وقراءة محتواها أمراً مثيراً. والأهم من هذا كله، التوجه نحو صنع تطبيقات للهواتف الذكية، وخصوصاً بالنسبة إلى المؤسسات الإعلامية. فهذا يضمن تدفّقاً كبيراً للمستخدمين، كما يفتح باباً جديداً لكسب المال عبر الإعلانات.
ينسى المرء أحياناً الأمور التي أثارت اهتمامه حين كان في سنّ المراهقة أو العشرينيات. مع زيادة الوعي والخبرة في الثلاثينيات وبعدها، نسينا أنّ هناك جيلاً جديداً يكبر حولنا. جيل له مفرداته وأفكاره وطموحاته وحركاته التي يتشاركها مع آخرين في كل أصقاع الأرض بحكم تأثير العولمة والتطور الرقمي في الاتصالات والتواصل. الجيل الذي نشأ على فايسبوك وماي سبايس وMSN Messenger وغيرها، صار في منتصف الثلاثينيات (وربّما أكثر، لكن لا بأس)، ولا يعني هذا أنّ أدوات التواصل التي نجحت معه ستنجح مع الجيل الجديد. من هذا المنطلق، على من يدير حسابات في منصات التواصل، أكان من أجل الربح أو نشر أخبار أو رسالة معينة، الاستعانة بأفراد من الجيل Z الذين سيستجيب لهم أقرانهم لا شعورياً. سيتحدثون بلغة الشباب بشكل عفوي وصادق، أضف إلى ذلك أنّهم ملمون بشكل لا يستهان به بالمنصات الجديدة.