ترك جون ستيوارت، برنامجه الساخر The Daily Show عبر «كوميدي سنترال» في آب (أغسطس) 2015 وخلفه تريفور نوا. بعدها دخل ستيوارت في تجربة جديدة مع خدمة +Apple TV عبر برنامج «المشكلة مع جون ستيوارت» للمرّة الأولى في عام 2021 كجزء من صفقة تمتد على سنوات وقّعها مع شركة آبل. وكان البرنامج يبث حلقات كل أسبوعين في موسمه الأوّل ثم تحوّل إلى حلقة أسبوعية في الموسم الثاني. لكن البرنامج توقف عن العرض في 19 تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، بسبب خلافات بين ستيوارت والمديرين التنفيذيين لآبل، بما في ذلك خلافات حول المواضيع والضيوف المحتملين، والقضايا المتعلقة بالصين، والذكاء الاصطناعي، والانتخابات الرئاسية الأميركية في المرتقبة في نهاية العام الحالي. ورغم حصوله على خمسة ترشيحات لجائزة «إيمي» خلال موسمَيْن، وصل البرنامج إلى نهايته المبكرة.يعود ستيوارت إلى The Daily Show كلّ إثنين خلال فترة الانتخابات الرئاسية الأميركية المرتقبة في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، لمواجهة السردية اليمينية الآخذة في التعاظم على منصات التواصل وتحديداً منصة X. إلا أنّ شكل العالم الذي عاد إليه الإعلامي الكوميدي الشهير تغيّر كثيراً. إنّه عالمٌ آخر. في عام 2024، أكثر من أربعة مليارات إنسان في أصقاع الأرض مُقدمون على انتخابات في دولهم. والحروب تمتد من أوكرانيا إلى فلسطين وصولاً إلى قارة أفريقيا. وكل ذلك يحصل في ظل تآكل قدرة الولايات المتحدة على ترتيب ملفات الأحداث العالمية. عملياً، دخلت فترة السلام الأميركي «باكس أميريكانا» مرحلة الموت. ويُضاف إلى ذلك صعود قادة اليمين في العالم، ولا سيما إيطاليا والأرجنتين وألمانيا وهولندا وإسبانيا والنمسا وفرنسا والولايات المتحدة. والأهم من ذلك كله، أنّ شكل الميديا وطريقة استهلاكها تغيّرا، كما أنّ الجيل الذي استمع إلى ستيوارت بين عامَي 1999 و2015 عبر برنامج The Daily Show لم يعد نفسه، فيما دخل جيل جديد من الشباب على خطّ الوعي السياسي لا يعلم مَنْ هو ستيوارت أصلاً. لكن، لنعطي الرجل حقه، ما ميّزه في سنوات عمله السابقة، هو قدرته على نقد الطرف الذي ينطق باسمه، أي اليسار الأميركي بما يمثله في الجناح التقدّمي داخل الحزب الديموقراطي، بطريقة كوميدية ساخرة وغير مريحة أحياناً لجمهور هذا التوجّه.
الحلقة الأولى التي ظهر فيها جون ستيوارت حملت رسائل إلى كلّ الجهات، مع تركيز أساسي على الإعلامي الترامبي الشهير تاكر كارلسن، إضافة إلى تأكيده بأنّ الصراع حول العالم حالياً اتخذ شكل مناصري ثقافة «اليقظة» ومعارضيها (Woke VS Anti-Woke). ولفهم ما يجري، فلنتوسّع قليلاً في معاني هذه العبارة وما تحمله من دلالات سياسية وثقافية.

ماذا يعني أن تكون Woke؟
نشأ المصطلح بدايةً من اللغة العامية الأميركية الأفريقية. وكان يعني الانتباه إلى التحيّز العنصري والتمييز. مع مرور الوقت، اتسع ليصبح ظاهرة ثقافية ترمز إلى الوعي المتزايد بالقضايا الاجتماعية والسياسية. وشمل وعياً أوسع حول عدم المساواة الاجتماعية مثل الظلم العنصري، والتمييز الجنسي، وإنكار حقوق المثليين والعدالة البيئية، والمساواة الاقتصادية. واستخدم هذا المصطلح في سياقات مختلفة، بما في ذلك الحركات التقدمية للعدالة الاجتماعية وسياسات الهوية. في الجوهر، تعني «اليقظة» الاعتراف بالترابط بين أشكال مختلفة من القمع والدعوة إلى تحرير جميع الفئات المهمشة.


تبنّى الحزب الديموقراطي الأميركي، وخصوصاً جناحه التقدّمي، هذه السياسة بما في ذلك بيرني ساندرز، وألكساندريا أوكاسيو كورتيز، وإليزابيث وارن. وصارت ثقافة «اليقظة» سمة بارزة لدى قواعد الحزب، وتحديداً جيل الشباب. ولأنّ «اليقظة» ضد القمع بكل أشكاله، نزل الشباب الغربي «اليقظ» إلى الشارع مناصراً لفلسطين ضد حرب الإبادة والتطهير العرقي التي تشنّها قوات الاحتلال الإسرائيلي. كذلك، من الملاحظ أنّ الشباب المنتمين إلى هذا التوجّه، يتعمّدون مخالفة الأعراف التي يفرضها المجتمع على أجسادهم، وبعضهم يصبغ شعره بألوان غير شائعة أو يقصّه بطرق غير مألوفة أو يتركه يطول كثيراً. أما ملابسهم، فتكون مخالفة لما يفترضه المجتمع. بالنسبة إليهم، يتعيّن محاربة القمع على كل الجبهات، أوّلها على جبهة الجسد.
هذا التوجّه منتشر في الولايات المتحدة. وبما أنّ الحزب الديموقراطي فاز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يمكن القول إنّ نصف الناخبين الأميركيين (ولو بدرجات متفاوتة من الالتزام) منتمون إلى هذا التوجه أو على دراية به. هكذا، نجد أنّ ثقافة «اليقظة» منتشرة على محتوى منصة نتفليكس ومنتجات هوليوود وفي المدارس والجامعات الأميركية. وعلى سبيل المثال، تضمين غالبية إنتاجات نتفليكس أفراداً من مجتمع الميم أو من أصول أفريقية، هو جزء من هذا التوجه، بعدما كان مجال التلفزيون والسينما والموسيقى يخضع لسيطرة البيض الكاملة، كما في كل المجالات الأخرى. ومن هنا، صار مصطلح Woke بشكل أساسي، يعني يساراً غربياً ديموقراطياً ليبرالياً تقدمياً معَوْلماً ومناصراً للبيئة، متعاطفاً مع المثليين وجميع فئات المجتمع المهمّشة، ومن دعاة رفض القمع والتمييز العنصري وحرية الإجهاض.

معارضو ثقافة «اليقظة»
ظهر التوجّه المناهض لثقافة «اليقظة» كرد فعل على التأثير المتزايد للأفكار التقدمية وسياسات الهوية، وخصوصاً بين الأجيال الشابة. يقول هؤلاء إنّ الأيديولوجيات التقدمية تؤدي إلى الإفراط في الصوابية السياسية، والرقابة، وقمع حرية التعبير. كما أنّهم يشكّكون في صحة نظريات عدم المساواة الهيكلية وفعالية التدابير الرامية إلى معالجة الظلم الاجتماعي. وغالباً ما يستخدم هؤلاء مصطلح «اليقظة» بطريقة مهينة أو ساخرة، وهم يميلون في الغالب إلى القيم المحافظة.
وجد الفكر اليميني نفسه في مواجهة تعاظم الأيديولوجيات التقدّمية، وخصوصاً بين الشباب الغربي الذي أكل حصة المحافظين من المجتمع. بدأت حملة شيطنة ضد متبنّي ثقافة الـ Woke منذ وصول الرئيس السابق دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة عام 2016. لم يعد يمكن فعلياً فصل هوية الحزب الجمهوري الحالي عن ترامب. منذ خسارة ترامب الانتخابات قبل أربعة أعوام، صارت معركة الرجل واضحة المعالم: تصدير القيم المحافظة إلى الشباب الأميركي بدرجة أولى، ثم الشباب الغربي، ورفع شأن اليمين في الدول ذات التأثير.
لهذا، نجد مثلاً أنّ الترامبيين لا يعارضون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل على العكس، يتمنون قائداً غربياً محافظاً مثله. وهذا ما حاول ترامب تقديمه لهم. ونجد أنّهم من معارضي إرسال المال والمساعدات العسكرية إلى أوكرانيا، في حين أنّهم معارضون للصين. يعارضون سياسات تصفير انبعاثات الكربون ويسخرون من السيارات الكهربائية التي تحتاج الكثير من الوقت لإعادة شحنها. يعشقون النفط وكل أشكال الوقود الأحفوري، ويتمنون إعادة إحياء الحلم الأميركي عبر إعادة الشركات والمصانع والوظائف إلى داخل الولايات المتحدة لا تصديرها إلى الصين حيث الكلفة أقل. فعلياً، هم كارهون للعولمة. القيم العائلية أساسية بالنسبة إليهم، وينبذون الفئات التي يعتبروها «شاذة». بنظرهم التمييز العنصري غير موجود إلا في مفردات من هم Woke، ويتقاطعون مع الأيديولوجيا الصهيونية وأحياناً يعتبرون أنفسهم جزءاً منها. بالتالي، أن تكون غربياً يمينياً اليوم، يعني أنّك ضد العولمة التي حوّلت الصين إلى ما هي عليه، وأنّك ضد الإجهاض والمثلية والهجرة، ولا ترى عنصرية أو تمييزاً ضد الملوّنين، كما أنّك تعتبر أنّ التغيّر المناخي خدعةً، وأنّ هناك قوى شريرة تحاول استبدال السكان البيض بآخرين ملوّنين، وأن الإجهاض جزء من نظرية مؤامرة، وأنّ اليسار الأميركي مخطوف من قبل الصين التي تحاول جعل أميركا اشتراكية.

ستيوارت VS كارلسن
قبل أسابيع، أجرى تاكر كارلسن مقابلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. عُرضت الحلقة التي تحمل رقم 73 من برنامجه «ذا تاكر كارلسن - إنترفيو» في التاسع من شباط (فبراير) الحالي، على حسابه على X وقناته على يوتيوب. لقيت المقابلة رواجاً كبيراً، وحاول بوتين عبرها تكذيب الصورة النمطية التي رسمها الغرب المعولم له بصفته قاتلاً متعطّشاً للحروب استولى على أراضي أوكرانيا. كما كان واضحاً في سخريته من ثقافة «اليقظة» من دون أن يسمّيها. بمعزل عن المقابلة نفسها، ما فعله كارلسن داخل روسيا كان أخطر دعائياً، ليس على الحزب الديموقراطي وكل ما يمثله فقط، بل على فكرة أميركا. دخل تاكر إلى إحدى متاجر موسكو واشترى منتجات له ولفريق عمله، وعندما دفع الحساب فوجئ بأنّ الأسعار زهيدة جداً مقابل ما كان سيدفعه في الولايات المتحدة لو اشترى الأشياء نفسها. ثم قال كارلسن أخطر ما تفوّه به على الإطلاق: «القدوم إلى متجر بقالة روسي (...) ورؤية كلفة الأشياء وكيف يعيش الناس، أمر سيجعلك متطرّفاً ضد قادتنا. هذا ما أشعر به على أي حال». وأضاف: «كنا نخمّن كم سيكلفنا ما ابتعناه (...) لقد وضعنا في العربة فقط ما كنا نأكله بالفعل على مدار أسبوع. توقّعنا أن يكون السعر نحو 400 دولار، لكن الكلفة هي 104 دولارات فقط. هنا تبدأ في إدراك أنّ الأيديولوجيا لا تهم كثيراً»، في إشارة إلى أن عدم وجود «ديموقراطية» في روسيا ليس بالأمر السيّئ. وهذا ما أعاد جون ستيوارت من سباته، فجيء به ليواجه تعاظم آلة الميديا الترامبية اليمينية التي تسيطر على X.
نزل الشباب الغربي «اليقظ» مناصراً لفلسطين ضد حرب الإبادة والتطهير العرقي


خصص ستيوارت 15 دقيقة من حلقته الأولى لمواجهة تاكر كارلسن. وسأل: «لماذا يفعل تاكر هذا؟ السبب هو أنّ المعركة الحضارية القديمة كانت بين الشيوعية والرأسمالية. وهذا ما قاد العالم منذ الحرب العالمية الثانية. كانت روسيا هي العدو آنذاك. لكنهم يعتقدون الآن أن المعركة هي بين ثقافة «اليقظة» وبين أعدائها... هكذا، يكون بوتين حليفاً لليمين. إنه صديقهم. ولسوء الحظ فهو أيضاً ديكتاتور وحشي ولا يرحم. لذا عليهم الآن أن يجعلوا الأميركيين أكثر ارتياحاً له (يقصد تلميع صورته عبر كارلسن)».
هذه حال العالم اليوم. وهذا العالم الذي عاد إليه جون ستيوارت في برنامجه. فهل ينجح فعلاً في كبح تعاظم اليمين في الميديا؟ سؤال لا يمكن التكهّن بجوابه حالياً، لكن الأكيد أنّ هذا لا يكفي، وخصوصاً مع هجرة الشباب إلى عالم الديجيتال، بين منصات التواصل والهواتف الذكية والتطبيقات. وهذا يفرض على ستيوارت دخول العالم الرقمي بطريقة أوسع وأكثر عصرية، ليوصل رسائله إلى جيل الشباب.



«نقدي» تجاه إسرائيل
ينحدر جون ستيوارت من عائلة يهودية أشكنازية، أشار كثيراً إلى يهوديته في مسيرته المهنية عبر برامجه الساخرة. في عام 1996، تحدّث عن الشرق الأوسط والسياسة الخارجية وإسرائيل في عرض ستاند أب كوميدي قدّمه في ميامي، قائلاً: «أنا رجل يهودي، لقد زرت إسرائيل، وأنا سعيد حقاً بوجودها هناك. لكن لن يكون هناك سلام أبداً، إنها حروب دينية، وعدد من الناس هناك يطالبون بقطعة الأرض نفسها». في عام 2013، نشر دونالد ترامب تغريدة تشكّك في يهودية ستيوارت: «إذا كان جون ستيوارت فوق كل شيء حقيقياً لنفسه، فلماذا غيّر اسمه من جوناثان ليبويتز؟ يجب أن يكون فخوراً بتراثه!» (يقصد يهوديته). في ظهوره الأخير (الحلقة الثالثة) في برنامج «ذا ديلي شو» في 27 شباط (فبراير) الحالي، أعرب ستيوارت عن آراء نقدية بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فأدان إسرائيل بسبب جرائمها في غزة، وانتقد الولايات المتحدة لتقديمها الدعم العسكري للكيان الصهيوني، داعياً إلى تغيير النهج في التعامل مع الصراع. وتحدّث عن الحاجة إلى استراتيجية جديدة لتحقيق السلام في المنطقة، واقترح أفكاراً مثل «منطقة منزوعة السلاح بين إسرائيل والدولة الفلسطينية الحرة، وإشراك دول عربية مثل السعودية ومصر والإمارات وقطر والأردن في ترتيب أمني». يتجلى تراث ستيوارت اليهودي في حياته الكوميدية والشخصية، لكن وجهات نظره تجاه إسرائيل ربما تطورت مع الوقت، بناءً على تصريحاته وما يتحدث به في حلقاته الساخرة. علماً أنّها ليست المرّة الأولى التي ينتقد فيها جون إسرائيل، إذ سبق أن قوبل باتهام «معاداة السامية» حين أفصح عن ملاحظاته على أدائها أو عارض قراراتها.