لم تخلف الحلقات التي عرضت حتى الآن من مسلسل «ولاد بديعة»، بالوعد الذي قطعه الإعلان الذي سبق عرضه للمشاهدين: حكاية مشوّقة عن صراع دموي بين إخوة على الميراث. تبدو الحكاية باختصارها السابق سطحيةً وشديدة النمطية، غير أن طريقة عرضها، والشخصيات التي تؤديها، شكلّت بمجملها حدوتة مشوّقة مليئة بالمواقف المتقلّبة، والصراعات المختلفة، المباشرة وغير المباشرة بين أطرافها، والداخلية بالنسبة إلى كل طرف.تبدأ الحكاية من الماضي، عندما كان «عارف الدباغ» (فادي صبيح) يحتفل بمجيء ابنه البكر «مختار» (يؤدي دوره عندما يكبر محمود نصر)، فيقع في حب شابة من ذوي احتياجات خاصة (بديعة ـــ تؤدي الدور إمارات رزق) كانت تصطحب معها طفلة صغيرة تُدعى «سكر» (تؤدي دورها عندما تكبر سلافة معمار)، وتجول بها بحثاً عن الطعام في منطقة تنشط فيها ورش دباغة الجلود، وهي إحدى أقدم المهن السوريّة. يقوم «عارف الدباغ» بإيوائها وابنتها، ويعتدي عليها جنسياً في وقت لاحق لتنجب التوأمين «شاهين» (يؤدي دوره عندما يكبر سامر إسماعيل)، و«ياسين» (يؤدي دوره عندما يكبر يامن الحجلي)، ما يؤسّس لصراع سيمتد بين «مختار» من جهة، و أبناء بديعة على رأسهم «شاهين» من جهة أخرى.

سلافة معمار في المسلسل

النص الذي كتبه علي وجيه ويامن الحجلي، يعتبر، بالنظر إلى المكان الذي تجري فيه الأحداث، امتداداً لأسلوب اتّبعه الكاتبان في أعمال عديدة سابقة لهما، عبر اختيار مهنة والإضاءة على تفاصيلها، واستثمار هذه التفاصيل في بناء العمل وشخصياته وأبعاده. في مسلسل «على صفيح ساخن» (2021- إخراج سيف الدين سبيعي) مثلاً، تدور أحداث الحكاية في عالم نبّاشي القمامة، وفي «مال القبان» الذي يعرض في الموسم الرمضاني الحالي (إنتاج 2023- إخراج سيف سبيعي)، تدور الأحداث في سوق الهال.
في عالم الدبّاغين، ينشأ «شاهين»، الابن غير الشرعي لـ«عارف»، فيتقن العمل، ويكون بالنسبة إلى أبيه الذي يعشق هذه المهنة ابناً مثالياً برغم عدم اعترافه به، في وقت يعيش فيه ابنه «مختار» في عالم بعيد، مدعوم بإرادة أمه (تلعب دورها ديمة الجندي) القادمة من عائلة أرستقراطية، في إبعاده عن الدباغة وعالمها، ما يؤسس لحالة مشابهة لما جرى مع الأخوين إيتيوكل وبولينيس، ابني أوديب، في مسرحية «مأساة طيبة» للكاتب والشاعر الفرنسي جان راسين، اللذين كان عليهما حكم مملكة طيبة بالتناوب تنفيذاً لوصية والدهما. كان بولينيس سيّئ الطباع، فرفض إيتيوكل التخلّي عن الحكم لأخيه، لينشأ صراع بين حق ممزوج بالشر من جهة، وباطل ملفوف بالخير من جهة أخرى. هذه الوصفة، بإسقاط جزئي، تمكّنت في «ولاد بديعة» من تعميق شكل الصراع الدائر، ومنحته مرونةً عالية في نقل عواطف المشاهدين بين طرفيه، فلا خير مطلقاً هنا ولا شرّ مطلقاً.
مخرجة العمل، رشا شربتجي، التي يدشّن هذا المسلسل تعاونها الأول مع الكاتبين علي وجيه ويامن الحجلي، تمكنت، في الحلقات التسع الأولى، من سرد الحكاية التي تسير في زمنين مختلفين بشكل سلس إلى حدٍّ ما، وفقاً لإيقاع مشدود ومتسارع يتناسب مع طبيعة العمل، في حين أفادت من عالم الأحلام الذي تعيشه أحياناً شخصيات العمل في إبراز لقطات بطابع سينمائي بشكل يتناسب مع عالم الأحلام، إلى جانب بعض المشاهد التي صوِّرت في محطة قطارات مهجورة.
الانتقال بين زمنين مختلفين في عرض الحكاية وجذورها التاريخية، خلق عالمين بشعورين مختلفين رغم سلاسته: الأول (في الماضي) كانت شخوصه أقرب إلى القلب، تمكّنت من خلق علاقة مع المشاهد، وخصوصاً مع حضور فادي صبيح اللافت، والثاني في الوقت الحالي، حيث بدا في الحلقات الخمس الأولى بعيداً إلى حد ما عن المتلقّي، تجري أحداثه خلف جدار وهمي، قبل أن ينكسر هذا الجدار بشكل تدريجي بعد فرد حلقة كاملة (الثامنة)، وبعض من الحلقة التاسعة، للماضي فقط، لتصبح الشخصيات أكثر وضوحاً وتشكل امتداداً أكثر إقناعاً لما حدث في الماضي.
أولت الحلقات الأولى اهتماماً بالتشويق على حساب الحكاية نفسها


أداء أبطال العمل كان مقنعاً ومتكافئاً، لا هفوات كبيرة بين الشخصيات الرئيسية رغم كثرتها، فمحمود نصر، أدى، حتى الآن، شخصية الشاب المصاب بالذهان بإتقان. كذلك فعل سامر إسماعيل، الأخ القائد، ويامن الحجلي، الشاب المتهوّر البخيل، وسلافة معمار، الراقصة وصاحبة الملهى الليلي، التائهة بين طموحها الكبير وماضيها البسيط.
إلى جانب أبطال العمل، تميّز الفنانون الذين لعبوا أدواراً مساعدة، أمثال تيسير إدريس (أبو الوفا) المغني المصاب بالزهايمر، ونادين الخوري (أم جمعة)، التي تعمل سائقة توك توك، تنقل عبرها الجلود من المسالخ إلى المدابغ، وإمارات رزق (بديعة)، التي أتقنت دور صاحبة احتياجات خاصّة، وتمكّنت برغم صمتها شبه الدائم، باستثناء جملة واحدة تكرّرها بين وقت وآخر (يا كريم)، من ترك انطباع كبير، وخلق علاقة قوية مع المشاهدين، إضافة إلى غزوان الصفدي (مؤيد، زوج سكر) وبعض الممثلين الشباب أمثال لين غرّة (مروة)، وهافال حمدي (نظمي)، ووسام رضا (السيكي).
تمكّن «ولاد بديعة» (إنتاج شركة بينتالنس) من لفت اهتمام المشاهدين، وحصد مكانة بين الأعمال الرمضانية السورية، مقدّماً حتى الآن، حكاية مشوّقة وفرجة ممتعة، رغم بعض الزلّات في إيقاعه، وخصوصاً في حلقاته الأولى التي ظهر فيها الاهتمام بالتشويق، والأداء التمثيلي لبعض الشخصيات، على حساب الحكاية نفسها، وبناء علاقة بين شخوصها والمشاهدين، إضافة إلى بعض المصادفات المدبّرة بعناية لتُسهم في تشبيك الحكاية وربطها. تفاعل الجمهور مع المسلسل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يكشف حجم النجاح الذي حقّقه وسط كمّ كبير من الأعمال الرمضانية المتزاحمة، في انتظار ما تخفيه الحلقات المقبلة وما ستؤول إليه الحكاية.

* «ولاد بديعة»: س:12:00 على «mbc دراما» ـــ منصة «شاهد»