رغم إقرار دول العالم أجمع بظاهرة تغير المناخ العالمية ووضع اتفاقية إطاريّة دولية لمقاربتها منذ عام 1992، لم تلتزم هذه الدول بالاتفاقية وفشلت في الالتزام بمندرجاتها والتكيف مع الظواهر المناخية المتطرفة. فهل تستطيع إجراءات تتخذها سلطات محلية في المدن والقرى التكيف مع هذه الكوارث والتخفيف من انعكاساتها على السكان، خصوصاً في الدول الفاشلة والمنهارة كلبنان؟ وما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الحكومات والقطاع الخاص والأفراد؟إجراءات التكيف يفترض أن تبدأ من النظام الصحي أولاً (ولا سيما في حالات الطوارئ) الذي يجب أن يستعد (كي لا يُفاجأ كما حصل مع جائحة كورونا الأخيرة)، لاستقبال حالات إغماء واختناق وما يصنف بـ«ضربات شمس» من جراء ارتفاع درجات الحرارة، ولا سيما بين كبار السن ومن يعانون مشكلات صحية معينة لا تتناسب مع ارتفاع غير معتاد لدرجات الحرارة.
زيادة الحرارة تعني أيضاً زيادة الطلب على الطاقة للتكيّف مع درجات الحرارة المتصاعدة وفي أوقات الذروة. صحيح أن الاعتماد على الطاقة المتجددة، ولا سيما الشمسية منها، زاد بشكل لافت في السنتين الأخيرتين، إلا أن هذه الزيادة لم تنجم عن وعي بالتغيرات المناخية، بل لتغطية النقص ولظروف اقتصادية معينة، ولدى فئات محددة يمكنها تحمل الأكلاف العالية لإتاج هذه الطاقة بشكل فردي، بعد تقصير الدولة في إنشاء مزارع للشمس والرياح وتطوير المحطات الكهرومائية على الأنهار ومخارج المياه المتعددة.
ومع التغيرات المناخية وزيادة الحرارة، سيعرف الجميع قيمة الأشجار مجدداً في القرى والمدن، وسيدرك من افتخروا طويلاً بناطحات السحاب الزجاجية كم يحتاجون من طاقة للتبريد وأي جحيم ينتظرهم. وستدرك البلديات ومن انتخب مجالسها طوال السنوات الماضية من أجل مصالح وخدمات خاصة، أهمية الحدائق العامة وزراعة وسطيات الطرق بالأشجار والنباتات المطرّية للجو عندما تتجاوز الحرارة المعدلات المعتادة، بدل إعطاء الأولوية للوحات الإعلانية في المساحات الترابية والخضراء المتبقية في المدن وعلى الطرق الدولية.
عندما ترتفع درجات الحرارة، سنعرف مدى خطورة حرائق الغابات التي ستزداد نتيجة الإهمال واستسهال إضرام النيران، وستُفضح حملات التشجير الفولكلورية، وكل ما جاء تحت عنوان «حماية البيئة» و«مكافحة التصحر» و«إعادة التشجير»... وغيرها من تنفيعات البرامج الدولية، من دون وجود حاضنة اجتماعية لديها قناعة حقيقية بأهمية الشجر وحماية الأحراج، ما يحتّم على ما يسمى منظمات المجتمع المدني أن تغير في أولوياتها ومنهجياتها وادعاءاتها (مع من يدعمها) بأنها يمكن أن تشكل بديلاً عن الدولة وعن السلطات المحلية أمام عظمة الكوارث التي ستأتي، كما يحتم إعادة الاعتبار إلى العمل التطوّعي والاجتماعي والبيئي.
التقديرات الأولية لكلفة التكيف مع آثار تغير المناخ في البلدان النامية تصل إلى 127 مليار دولار


وعلى المدى الأبعد، ينبغي بدء التحسب لنوع جديد من النزوح يعرف بالهجرة المناخية، الداخلية والخارجية. وهذه قد تكون أطول من تلك التي تتسبب بها الحروب والأزمات الاقتصادية، ولا سيما عندما يزداد الجفاف وتنعدم ظروف العيش لبعض الفئات الاجتماعية في بعض المناطق. والهجرات الناجمة عن الجفاف تؤدي إلى جفاف مضاعف. إذ تعني زيادة الطلب على المياه في الأماكن التي يقصدها «النازحون المناخيّون» وزيادة الطلب على المياه في المدن والبلدات، في ظل شح سيؤثر على كل القطاعات، وخصوصاً الزراعة، ما يستدعي وضع خطط واتخاذ إجراءات التوفير والتخزين (غير السطحي) منذ الآن، وضبط السحب من الآبار الجوفية، وضبط الاستخدامات للمياه في القطاعات كافة.
في ظل الانشغال بالاستحقاق الرئاسي، يبدو من الترف مطالبة المرشحين وضع استراتيجية للتنمية المستدامة لما بعد الانهيار واستراتيجية لمواجهة التغيرات المناخية، وإعادة الاعتبار للتخطيط الحضري، وإعادة النظر بما هو مطلوب من الصناديق الدولية والدول الكبرى المسببة لتغير المناخ ومن المانحين (إذا وجدوا)، وخصوصاً أن التقديرات الأولية لكلفة التكيف مع آثار تغير المناخ في البلدان النامية تصل إلى 127 مليار دولار، كما قدرها التقرير التجميعي السادس للأمم المتحدة، هذا من دون احتساب التعويضات المطلوبة للخسائر والأضرار التي ستنجم عن الكوارث المناخية التي بدأ البحث بها في قمة المناخ في شرم الشيخ العام الماضي.