الخرطوم | فيما تقترب الأزمة في السودان من دخول شهرها الرابع، تبدو الحلول أكثر بعداً من أيّ وقت مضى، على رغم كثافة الحَراك الديبلوماسي على خطّ الصراع، ومحاولة بعض الأطراف المدنية السودانية، وعلى رأسها «قوى الحرية والتغيير» حشد دعم إقليمي لخيار إنهاء الحرب والعودة إلى أوضاع ما قبل الـ 15 من نيسان. وفي هذا الإطار، برزت الزيارة التي قام بها الوفد الممثِّل لتلك القوى إلى عنتيبي الأوغندية، ودعمها اجتماعات للحركات المسلّحة السابقة في العاصمة التشادية أنجامينا في الـ 7 من تموز الجاري، ومن ثمّ توجّهها في اليوم التالي إلى أديس أبابا لحضور اجتماعات لـ«الهيئة الحكومية للتنمية» (إيغاد) (10-11 الجاري)، بحضور مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية، مولي في، وممثّلين عن الحكومة السودانية وقوات «الدعم السريع». ومن المتوقّع أن يَبلغ هذا الزخم ذروته نهاية الأسبوع الجاري، باجتماع لدول جوار السودان في القاهرة، وبأجندة طموحة للغاية تشمل سبل إنهاء الصراع، ووضع آليات فاعلة لتسويته «بالتنسيق مع المسارات الإقليمية والدولية الأخرى»، بحسب بيان الخارجية المصرية.يأتي ذلك في ظلّ تذبذب ميداني متواصل، على رغم تمكّن الجيش السوداني من إعادة تعديل الكفّة نسبياً في الخرطوم وأمّ درمان بعدما بدا على وشك فقدان السيطرة تماماً عليهما، وهو ما قد يكون أسهم فيه دخول المسيّرات التركية من طراز «بيرقدار» على خطّ المعركة، حيث بدا واضحاً الفرق الذي أحدثته بإلحاق خسائر بقوات «الدعم السريع». أمّا سياسياً، فسُجّلت خروقات غير مسبوقة في السياسة الخارجية للمجموعة الحاكمة المتمثّلة في «المجلس السيادي» بقيادة عبد الفتاح البرهان، آخرها عقد لقاء بين علي صادق، القائم بأعمال وزير الخارجية السوداني، وحسين أمير عبد اللهيان، وزير الخارجية الإيراني (على هامش قمّة «دول عدم الانحياز» في أذربيجان في 6 تموز)، جرى خلاله الإعلان عن إمكانية عودة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين بعد انقطاع استمرّ سبعة أعوام، في وقت باتت فيه إيران تملك تفوّقاً ملموساً في تصنيع المسيّرات.

عودة «الحرية والتغيير» والتغيّرات الميدانية
دعا قادة «قوى الحرية والتغيير»، خلال اجتماع مع الرئيس الأوغندي يوري موسيفني في عنتيبي مطلع الجاري، إلى «وقف الحرب وتكوين جيش وطني واحد»، بعدما كانوا قد أحجموا عن دعم مطلب دمج قوات «الدعم السريع» بالجيش، وانحازوا ضمناً إلى تصوّرات قائد تلك القوات، محمد حمدان دقلو «حميدتي». وتشي هذه الدعوة برغبة «الحرية والتغيير»، التي تراجع تأثيرها كثيراً في المشهد السوداني، في الظهور بمظهر المحايد الذي يسعى إلى «وقف الحرب، والتوصّل إلى حلّ سياسي شامل وعادل يقود إلى جيش وطني ومهني موحّد، وحكم مدني ديموقراطي، وسلام مستدام»، وفق البيان الصادر عن التحالف المعارض عقب لقاء ممثّليه موسيفني. ولعلّ ممّا يحفّز هذه الرغبة الحرَج الذي تسبّبه الشهادات الموثقة المتلاحقة (من شهود عيان ومنظمات أممية) في شمال دارفور وغربها وجنوبها عن انتهاكات عمدية، ترتقي إلى مستوى «التطهير الإثني» في الغرب خصوصاً، تقوم بها «الدعم السريع»، التي سُجّل، على خطّ مواز، منتصف الأسبوع الفائت (3 تموز)، تصادم بينها وبين مجموعة من الحركات المسلّحة الموقّعة على «اتفاق جوبا للسلام» غرب الأُبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان، وعلى رأسها «تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، و«تجمع قوى تحرير السودان»، و«التحالف السوداني» (كوّنت هذه القوى في ما بينها قوّة مشتركة في 27 نيسان الماضي لملء الفراغ الأمني في شمال دارفور، ونجحت في مهامّ عدّة، من بينها توصيل المساعدات الإنسانية). يضاف إلى ما تَقدّم، أن دعوة زعماء أكبر سبع قبائل عربية في دارفور أبناءهم إلى ترك صفوف الجيش، والانضمام إلى «الدعم»، دقّ جرس الإنذار من اقتتال قبَلي قد يعود الإقليم للانزلاق إليه، بعدما عانى من هذه الحالة لسنوات طويلة، وهو ما لم يعُد مستبعداً من وجهة نظر الأمم المتحدة، التي حذّر أمينها العام، أنطونيو غوتيريش، من أن السودان قد يكون على عتبة حرب أهلية شاملة. كما أن تورّط الجيش السوداني المحتمل - بعدما حرص لفترة على «ترشيد» الغارات الجوية تجنّباً لوقوع خسائر في صفوف المدنيين - في تنفيذ ضربات جوية بدأت تحدث «أضراراً جانبية جسيمة»، كما في حالة قصف أحد مرافق وزارة الصحة في أمّ درمان في الثامن من تموز، والذي أدى إلى مقتل ما لا يقلّ عن 22 شخصاً (في محاولة على ما يبدو لقطع خطوط إمداد «الدعم»)، بات يستفزّ الدعوات إلى تسوية تُعجّل في وقف الصراع حتى لا يودي إلى حمام دم أكبر.
يزداد المشهد الميداني تعقيداً يوماً بعد آخر، ملقياً بمزيد من التبعات على السودانيين الذين يدفعون الثمن من حياتهم وممتلكاتهم


ما بعد الوساطات
على المستوى الديبلوماسي، وعلى رغم حرص الرياض على عدم إعلان وفاة «منبر جدة»، ومساعيها لإسناده بمؤتمر مانحين عُقد في جنيف، في الـ 19 من حزيران الفائت، برعاية الأمم المتحدة (تعهّدت الدول المشاركة فيه بتقديم 1.5 مليار دولار دعماً للسودان)، فإن الوساطة السعودية - الأميركية باتت شبه مجمّدة، فيما تبدو وساطة «إيغاد» عاجزة عن إحداث اختراق في المشهد، وهو ما لا تفلح في تغييره جهود «قوى الحرية والتغيير» لإعادة طرحها على «طرفَي النزاع»، وخصوصاً في ظلّ رفض رئيس «المجلس السيادي»، عبد الفتاح البرهان، اقتراحاً لعقد لقاء مع «حميدتي» في أديس أبابا. مع ذلك، تستمرّ محاولات استدعاء وساطات جادّة، من مثل دعوة «الحرية والتغيير» من عنتيبي، إلى تفعيل الوساطة الأفريقية، واحتضان أنجامينا اجتماعات لقادة المجموعات المسلّحة في دارفور والقوى الموقّعة على «اتفاق جوبا للسلام» للتباحث في سبل وقف الحرب في السودان، ولا سيما في دارفور، وما أعقب هذه الاجتماعات من رحلة للرئيس الكيني، وليام روتو، إلى العاصمة التشادية (9 الجاري)، في مسعى للقيام بدور وسيط. وبالتوازي مع تلك التحركات، تُسجّل مساعي البرهان لاستجلاب مبادرة سلام من أطراف يراها أكثر توازناً من السعودية والولايات المتحدة (الراعيتَين لـ«منبر جدة»)، وفي لحظة ميدانية يعتقد أنها ملائمة له، تصاعداً واضحاً، ومن هذا إبداؤه، في محادثات هاتفية مع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، استعداده لـ«قبول أيّ مبادرة تركية في الصراع لوقف الحرب وتحقيق السلام في السودان»، ومن بعده تحرّكه نحو روسيا، عبر إجراء نائبه، مالك عقار، محادثات مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في محاولة على ما يبدو للتخفّف من الضغط الغربي، وتوجيه رسالة إلى الأطراف الدولية المعنيّة بأنه إنّما يملك خيارات أخرى. ومن المنتظَر أن يتكامل المسار الديبلوماسي هذا، غير الواضحة ثماره إلى الآن، منتصف الشهر الجاري، باجتماع تستضيفه القاهرة لدول جوار السودان مجتمعةً (ليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا وإريتريا، إضافةً إلى الدولة المستضيفة)، بعدما تأجّلت فكرة عقده في نيسان الماضي (على الأرجح بسبب الضغوط السعودية والإماراتية)، ولاحقاً في أيار بحجة طرْح الملفّ السوداني أثناء القمّة العربية التي عُقدت في جدة في الـ 19 من أيار.

خلاصة
يزداد المشهد الميداني تعقيداً يوماً بعد آخر، ملقياً بمزيد من التبعات على السودانيين الذين يدفعون الثمن من حياتهم وممتلكاتهم. وبالتوازي مع ذلك، لا يبدو، إلى الآن، أن ثمّة طرفاً وسيطاً قادراً على القبض على زمام المشهد (باستثناء الدعوات - التي تَظهر أقرب إلى التمنّيات - إلى وقف فوري لإطلاق النار والاحتكام إلى الحوار، كما ورد في البيان الختامي لآلية «إيغاد» أمس)، وإعادة ضبطه، بما يساعد في إيجاد حلّ للصراع الذي تُخشى استطالته، وسط قلّة اكتراث عالمية بنتائجه.