بالتوازي مع التزامها الميداني التامّ القرار الأميركي في مناطق انتشارها في الشمال الشرقي من سوريا، تحاول «قوات سوريا الديموقراطية»، عبر مختلف أدواتها، خلق مروحة من الخيارات التي تتيح لها ضمان استمرار مشروع «الإدارة الذاتية»، أو على أقلّ تقدير، الانخراط في مسارات الحلّ القائمة، بما فيها الروسي والأممي اللذان يغيب عنهما الأكراد بشكل كلّي. وتسعى «قسد»، من خلال ذلك، إلى استباق أيّ تقدّم سياسي متوقّع قد يعمّق من تهميشها، في ظلّ التقارب السوري – التركي الذي تدفع روسيا وإيران به على هامش «أستانا»، واقتراب عودة أعمال «اللجنة الدستورية» المعطّلة، إلى الحياة.
بدأ «مجلس سوريا الديموقراطي - مسد» حواراً مع «هيئة التنسيق الوطنية» (معارضة داخلية)، في محاولة يمكن اعتبارها الثانية من نوعها لخلق «جبهة معارضة» بالشراكة بين الأكراد الذين يقودون مشروع «الإدارة الذاتية» في مناطق سيطرة «قسد» وقوى معارِضة. ووصل الحوار إلى مرحلة متقدّمة، وفق مصادر تحدّثت إلى «الأخبار»، لافتة إلى أنه لا تزال هناك بعض الملفات الخلافية قيد المناقشة، أملاً في التوصّل إلى اتفاق يفتح الباب أمام تمثيل، سيكون الأول من نوعه، للأكراد في أروقة الحلّ السياسي في سوريا. وحملت المحاولة الجديدة، التي تمّ الإعلان عنها في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، اسم «مبادئ»، أعلنت عنها «مسد» و«هيئة التنسيق»، في بيان مشترك، عبّر عن التوافق على خمس نقاط رئيسة.
وتَمثّلت أبرز تلك النقاط في «التأسيس لبناء جبهة وطنية ديموقراطية سورية عريضة لقوى الثورة والمعارضة السورية، تتبنّى مشروع التغيير الوطني الديموقراطي (...) الذي يكفل المحافظة على وحدة سوريا الجغرافية والسياسية، ويرفض كل المشاريع والمحاولات التقسيمية والانفصالية التي تهدّد وحدة سوريا أرضاً وشعباً»، بحسب البيان. كذلك، شدّد الطرفان على «مشاركة القوى السياسية الوطنية الديموقراطية في العملية السياسية من دون إقصاء»، وهي نقطة يمكن اعتبارها الهدف الرئيس لهذا الحراك، في ظلّ غياب «قسد» عن التمثيل في مسار «أستانا» الروسي، وعن ورش «اللجنة الدستورية»، سواء في فريقَي المعارضة أو المستقلين، بسبب العداء بينها وبين «الائتلاف السوري المعارض» الذي تقوده تركيا، إلى جانب فشل جميع محاولات الحوار السابقة بين الأكراد والحكومة السورية.
وتُعيد هذه المبادرة، التي لا تزال تخطو أولى خطواتها في طريق طويل مليء بالعثرات، إلى الأذهان، محاولات سابقة للانخراط في المسارات السياسية للحلّ، أبرزها محاولة عام 2015 التي انخرط فيها هيثم المنّاع، بصفته شريكاً في قيادة «مسد» آنذاك، قبل أن ينسحب من المجلس عام 2016، معلناً رفض «إعلان الفدرالية الكردية» التي يحاول الأكراد ترسيخها، ما أدّى إلى حصر تمثيل هؤلاء في المباحثات السياسية حول سوريا بـ«المجلس الوطني الكردي» المدعوم تركياً. والواقع أن النقاط الخلافية الحالية التي يَجري الحديث عنها بين «هيئة التنسيق» و«قسد»، لم تخرج عن صلب المشكلة التي تمنع الأخيرة من الانخراط في أيّ عمل سياسي. إذ يدور الحديث، وفق مصادر كردية مطّلعة على الحوار القائم بين الطرفَين تحدّثت إلى «الأخبار»، عن وجود «خلاف جوهري بينهما يتعلّق بشكل اللامركزية» الذي يجب الاتفاق عليه، بالإضافة إلى «خلافات تتعلّق بدور قسد المستقبلي في الجيش السوري»، في ظلّ تمسك الأكراد الذين يقودهم «حزب الاتحاد الديموقراطي» بشكل «الإدارة الذاتية» الذي تحظى بدعم غير مباشر من واشنطن وحلفائها، ما يجعل مصيرها مرتبطاً بالقرار الأميركي، والذي أعاق طوال السنوات الماضية التقارب بين «قسد» والحكومة السورية، وهو أمرٌ مرفوض من أنقرة وموسكو وطهران أيضاً.
ثمّة خلاف جوهري بين «قسد» و«هيئة التنسيق» يتعلّق بشكل اللامركزية المنشودة


ويبدو اختيار «هيئة التنسيق» التي تضمّ مجموعة من المعارضين السوريين الوازنين، وتنشط في دمشق، بالإضافة إلى أنها تفتقر إلى وجود أيّ تمثيل عسكري على الأرض، منطقياً من قِبل «قسد»، على خلاف «الائتلاف» الذي يشكّل واجهة للفصائل المنتشرة في الشمال السوري. وبينما ترى «قسد» أن من شأن ذلك الاختيار، في حال تجاوز الخلافات الراهنة، أن يؤمّن لها تشكيل «هيئة» ذات حضور سياسي وميداني، تتصاعد الشكوك حول نجاح التجربة، لأسباب تتعلّق بقرار «قسد» المرتهن لواشنطن، واستحواذ «حزب الاتحاد الديموقراطي» على السلطة في مناطق «الإدارة الذاتية». وإلى جانب محاولة تشكيل «جبهة معارضة» تنخرط فيها «قسد»، بدأت الأخيرة محاولة إعادة تنشيط الحوار الكردي - الكردي، بين حزب «الاتحاد الديموقراطي»، و«المجلس الوطني» المدعوم من إقليم كردستان في العراق. وفي هذا الإطار، أعلن قائد «قسد»، مظلوم عبدي، بشكل صريح، خلال حديث أدلى به أخيراً، استعداده لاستكمال الحوار مع «المجلس الوطني» و«تذليل العقبات أمام الخروج بتوافق»، وفق تعبيره. وخلافاً للسنوات الماضية، يمكن النظر إلى تصريحات عبدي، بجدّية أكبر هذه المرّة، نتيجة أسباب عديدة، من بينها رغبة «قسد» الواضحة في استباق أيّ توافق سوري – تركي تعتبره مهدداً لمشروع «الذاتية»، بالإضافة إلى ظهور بوادر توافق تركي – أميركي جديدة، يعوّل عليه الأكراد.
في هذا السياق، تلفت المصادر الكردية إلى أن «قسد» تعوّل على جهود المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، نيكولاس غرينجر، الذي أنهت واشنطن عمله في سوريا ونقلته إلى تركيا مع استمرار عمله في الملف السوري، ما يأتي، على ما يبدو، ضمن المحاولات الأميركية لخلق توافقات جديدة حول المسألة السورية، يمثّل التوافق الكردي - الكردي أحد جوانبها، وخصوصاً أن غرينجر أعلن نيّته إعادة إحياء ذلك الحوار. ويشكّل التوافق المنشود بين الأكراد، والذي يندرج في إطار خطّة أميركية قديمة - جديدة لتشكيل حلف معارض يوحّد المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية في الشمال والشمال الشرقي، نافذة أخرى يمكن أن تخوّل «قسد» العبور إلى مسارات الحلّ السياسي، غير أن دون التوافق المشار إليه عثرات تعزّز من فرص فشله الذي بات معتاداً نتيجة تجارب عديدة سابقة، ما لم يحدث اختراق كبير يعيد ترتيب الأوراق، وهو ما يبدو أن «قسد»، التي تستشعر اقتراب «خطر» التطبيع السوري - التركي، تعوّل عليه. والجدير ذكره، هنا، أن الولايات المتحدة قادت خلال السنوات الماضية محاولات عديدة لتوحيد الصف الكردي، إلّا أنها باءت جميعها بالفشل بسبب التدخّل التركي المؤثر على قرار «المجلس الوطني»، وإصرار «حزب الاتحاد الديموقراطي» في المقابل على احتكار المشهد الكردي.



دمشق تنهي كباش المساعدات بقرار سيادي
بعد فشل مساعي تمرير قرار يسمح باستمرار إدخال المساعدات الإنسانية إلى الشمال السوري، في اجتماع مجلس الأمن الدولي الأخير، نتيجة إصرار الولايات المتحدة وحلفائها على إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه، في مقابل ربط روسيا القرار بتقديم دفع لـ«عمليات التعافي المبكر» تسهيلاً لعودة اللاجئين إلى بلدهم، مدّدت دمشق آلية إدخال المساعدات عبر معبر باب الهوى، في خطوة باتت تعتمدها الحكومة السورية لتعزيز حضورها في هذا الملف، وإبعاده عن طاولة المفاوضات السياسية. وأعلن السفير السوري لدى «الأمم المتحدة»، بسام الصباغ، في رسالة إلى مجلس الأمن، أن هذه الخطوة ستمتدّ لستة أشهر تبدأ من الثالث عشر من الشهر الحالي، مضيفاً أن تنفيذها يجب أن يجري «بالتعاون والتنسيق الكاملين مع الحكومة السورية»، وفق وكالة «رويترز». ومن شأن هذا القرار أن يغلق الكباش السياسي الروسي - الغربي حول ملف المساعدات بشكل مؤقّت، ويوفّر للسوريين الذين يعيشون في الشمال الاحتياجات المعيشية الضرورية، عبر رخصة تقدّمها الحكومة السورية - صاحبة السيادة -، بعيداً عن أي قرار يُفرض دولياً.
ويستبطن القرار السوري الذي يعتبر استكمالاً لقرارين سابقين اتُّخذا عقب وقوع الزلزال، وسمحت من خلالهما دمشق بتمرير المساعدات عبر ثلاثة معابر (باب الهوى والراعي وباب السلامة) لمدّة ثلاثة أشهر تمّ تمديدها لثلاثة أخرى، رسالة بضرورة التعاون مع دمشق لاستمرار تدفّق المساعدات. والجدير ذكره، هنا، أن هذا الملف يعاني مشكلات عديدة أبرزها ضعف التمويل الذي لم يتجاوز حتى الآن 12 في المئة من المطلوب، ما أدّى إلى تخفيض المعونات، واستبعاد نحو مليونَي سوري من «برنامج الغذاء العالمي». وبينما طلبت دمشق معالجة هذه المشكلات، إلى جانب رفع العقوبات أحادية الجانب التي تُعيق محاولات نفض غبار الحرب، والبدء بعودة اللاجئين، لا يزال الملف الإنساني يُقابل، حالياً، بمحاولات عرقلة مستمرة، آخرها الضغوط الأميركية - الأوروبية على لبنان والأردن لوقف مساعيهما لتنشيط العودة الطوعية للاجئين، علماً أن المنظمات الأممية قلّصت حجم المساعدات المُقدّمة لهؤلاء في الأردن. وفي هذا السياق، أعلن وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، أن «بلاده سوف تتشاور مع البلدان المضيفة الإقليمية لعقد اجتماع، لتطوير استجابة مشتركة لانخفاض الدعم للاجئين السوريين، وتدابير التخفيف من تأثيره». وأضاف الصفدي، عبر «تويتر»، أنه «لا يمكن لعبء توفير حياة كريمة للاجئين أن يستمرّ في التحول نحونا وحدنا»، داعياً «برنامج الأغذية العالمي» إلى التراجع عن قرار قطع الدعم عن اللاجئين.