في لوحاتها المعلّقة في «غاليري تانيت» حتى الثالث من آب (أغسطس)، تدرس زينة عاصي السحابة التي تهبها بالإنكليزية عنوان Study of a Cloud. المعرض حصيلة أعمال بدأت الفنانة اللبنانية في إنجازها منذ عام 2015 حتى الأمس القريب، وتعقد فيها صلة بين المساحات والأزمنة. في لوحاتها رحلة ممتدّة في الزمن، وثمة رحلة أيضاً في المكان، فضلاً عن أساطير ومعتقدات من الحضارات القديمة.
«دراسة سحابة فوق بيروت 2» (مواد مختلفة على كانفاس ــ 105 × 140 × 117 سنتم ـ 2022/2023)

في المرحلة الأخيرة من حياته، أنتج رسّام المناظر الطبيعية البريطاني اللامع جون كونستابل (1776-1837) نحو خمسين لوحة ومئة دراسة لتيمة واحدة تتعلّق بالتفاعل بين الضوء والغلاف الجوي والحركة، موثقاً بدقة الظروف المناخية، واتجاهات الرياح وتشكيلات السحب والوقت الذي يستغرقه كلّ تكوين، ومنحها عنوان «التزحلق». والأمكنة هي سوفولك وبرايتون وهامبستيد.
على خطى كونستابل، تستكشف زينة عاصي سماء بيروت وعمرانها بأسلوب يحاكي سماء الفنان البريطاني، مظهرةً علاقتها بالمدينة التي ولدت فيها وهامت بسمائها، معتمدة التوبوغرافيا على القماش، وعائدةً إلى الحكايات المحفورة على درع أخيل أو أشيل. أربعون لوحة صغيرة وخمس كبيرة تتأرجح بين الواقع والمتخيّل والأسطوري. وبالنسبة إلى الفنانة، يشكّل المعرض استجواباً للزمان (رمزه السماء) وللمكان (رمزه المنظر الحضريّ).

أربعون لوحة صغيرة وخمس كبيرة تتأرجح بين الواقع والمتخيّل والأسطوري

المعرض ثمرة ثمانية أعوام من التحضير والعمل المستمّر لترك الزمان والمكان يفعلان فعلهما في أعمالها التي تضمّ ــ إلى جانب اللوحات ـــ خزفيات وأعمدة معابد وطواطم و«غرغول»، مستوحاة من القطع الأثرية التي يضمّها المتحف الوطني في بيروت. القديم يلاقي الحديث، فالفنانة مقيمة في فضاء بينيّ حيث يمكن للزمان والمكان أن يتحاورا، وهذا ما يتجلّى في أعمال عاصي المتنوعة والغنية. فيما تستعيد خزفيّات الفنانة أزمنة الملاحم البطولية والآلهة القديمة، تزيّن المدن التاريخيّة مزهريّاتها، وتبدو الأعمدة مثل بوّابات الزمن تستلهمها من أعمدة معبد جوبيتير الأربعة والخمسين التي لم تبق قائمةً بأكملها. منحوتات وزخارف معقدة، متوّجة بالغرغول بأشكال لحيوانات أسطورية أو لبشر أو لمزيج هجين منهما، وطوطم للمجتمعات البدائية. تغوص زينة في الأساطير والحضارات لتدمجها مع التاريخ المعاصر وفنونه البصرية، بين سخرية ومأساة وفكاهة مرحة. كأنّ ثمة تجسيداً لـ Ecce Homo (هوذا الرجل) المقولة المتغلغلة في تاريخ الفن (اختارها نيتشه عنواناً لأحد مؤلفاته) ومنبعها ما نطق به بيلاطس بحسب إنجيل يوحنا يوم قدّم المسيح بهذه الصفة إلى أعدائه عقب صلبه. لوحات عاصي قريبة من أعمال الرسّامين المأساويين أمثال الإسباني فرانسيسكو غويا، والألماني غروس ذي النبرة الساخرة.
خزفيات وأعمدة معابد وطواطم مستوحاة من القطع الأثرية التي يضمّها المتحف الوطني


في هذا المعرض أيضاً تجهيز مكوّن من خمس كراسٍ تحيط بمائدة مستديرة كواجهة بين الفردي والجماعي. ثمة رمز لفكرة العائلة التي تسود أعمال الفنانة أيضاً، وعلى سطح المائدة خمس لوحات زخرفيّة كلّ منها لفرد من العائلة (الأب، الأم، وبنات ثلاث). بيد أنّ الرسوم هذه محاطة بمنمنمات منفّذة بالقلم الرصاص لذبابات مرفقة بأرقام متسلسلة تدلّ على ضحايا حرب يرقّمون عادةً ويسقطون «مثل الذباب» على مأثور الكلام.



الهجرة والحروب والقضايا الراهنة


زينة عاصي من مواليد 1974 في بيروت، تقيم حالياً في لندن، تستكشف في أعمالها الفنية المتنوّعة، الأساليب والأشكال والرؤى والتحوّلات الثقافية والاجتماعية رسماً ونقشاً ونحتاً وزخرفاً وتركيباً. تعكس أعمالها القضايا الراهنة كالهجرة والحروب، ويمكن العثور على أعمالها في مجموعات عامة وخاصة، بما فيها «الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» (ألبا) في بيروت، وفي «مؤسسة بارجيل للفنون» في الشارقة، وفي «معهد العالم العربي» في باريس. حازت جوائز عديدة وأقامت معارضها المنفردة في أنحاء مختلفة من العالم، وشاركت كذلك في «بينالي البندقية للفنون».