وعلى رغم أن روسيا ربطت الانسحاب بعدم تلبية مطالبها المتمثّلة في التوزيع العادل للحبوب على كلّ العالم وليس على الدول الغنية فقط، وإدراج حساب وزارة الزراعة الروسية في نظام «سويفت» المالي حتى تتمكّن موسكو من الاستفادة مالياً منه، إلّا أن جزءاً من القرار جاء مدفوعاً، على ما يبدو، بالردّ على مواقف «الصديق» التركي، الذي يسود شعور لدى روسيا بأنه بدأ يفارق موقعه «المتوازن» بين روسيا والغرب. وفي مقابل ذلك، أعلنت تركيا، التي أكدت أن روسيا سحبت بالفعل ممثّليها من مركز التنسيق الرباعي الخاص بالاتفاقية والموجود في إسطنبول، أنها مستعدّة للقيام بأيّ دور لتسهيل إحياء الاتفاقية «حتى لا يعيش العالم دموعاً ومآسي جديدة». وقال رئيس دائرة العلاقات الإعلامية في وزارة الدفاع، العقيد البحري زكي آق توركا، إن «استئناف العمل باتفاقية الحبوب مهمّ للعالم أجمع، حيث تصل الحبوب من خلال هذه الاتفاقية إلى 45 دولة في القارات الثلاث». ومع أن إردوغان أعرب عن اعتقاده بأن «بوتين يريد الاستمرار في عمل هذا الجسر الإنساني»، فقد أبلغت روسيا «المنظمة البحرية العالمية» بوقف العمل بضمان سلامة السفن الآتية أو المغادِرة إلى أو من ميناء أوديسا الأوكراني، كما أبلغت الجميع بأنها ستعتبر هذه السفن أهدافاً عسكرية.
يحذّر خبراء أتراك من أن الأزمة الاقتصادية تبدّد الثروة الجيوبوليتيكيّة لتركيا
على أن العديد من التحليلات في تركيا تذهب إلى ما هو أخطر من ذلك. إذ أطلق الأميرال التركي المتقاعد والمعروف، جيم غوردينيز، تحذيراً من محاولة الغرب استدراج تركيا إلى حرب يراد لها أن تقع، بسبب الصعوبات التي تواجهها اتفاقية الحبوب. وقال غوردينيز: «تركيا لم تعترف بضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وهي تعترف بسواحل القرم على أنها تابعة لأوكرانيا، لكن روسيا تقول إن القرم لي وأعلنتها ساحة حرب/ أزمة. ولذلك، فإن روسيا لديها القدرة على تطبيق الحصار الذي تهدّد به». وأضاف أن «تهديد وزير الخارجية الأوكراني بتشغيل الاتفاقية عند الضرورة، أمر يتّصل بوضع المضائق في البوسفور والدردنيل. إن هذا يعني أن تركيا ستضمن أمن السفن لدى مرورها في المضائق، بينما أبلغت روسيا المعنيين أنها لا تضمن أمن السفن المتّجهة إلى أوكرانيا أو الخارجة منها. وهذا يعني بالنسبة إلى تركيا انتحاراً جيوبوليتيكاً». ومن هنا، اعتبر أن «على أنقرة أن تقاوم هذه الضغوط»، منبّهاً إلى أن «السيناريو الأسوأ هو إبعاد تركيا عن سياسة الحياد الإيجابي في البحر الأسود».
وأشار غوردينيز إلى أنه «حتى الآن، ليس من سفينة عسكرية واحدة يمكن أن تَدخل إلى البحر الأسود، لكن البعض يعمل على ذلك. ولذا، فإن انزياح تركيا في قمة فيلنيوس 180 درجة إلى جانب الأطلسي أمر مقلق من زاوية الجيوبوليتيك التركي». ورأى أن «شهر تموز هو شهر الانتصارات لتركيا: لوزان، مونترو، قبرص، لكن هذا العام الذي نحتفل فيه بالذكرى المئوية للوزان هو عام سيّئ لتركيا، حيث الأزمة الاقتصادية تبدّد الثروة الجيوبوليتيكيّة لتركيا»، محذّراً من أن «الأزمة المالية يمكن أن تعوّضها تركيا بعد سنتين أو ثلاث، لكن التنازلات الجيوبوليتيكيّة وتلبية مطالب الإمبريالية الغربية أمر يحتاج إلى عشرات السنين لتعويضه». وأعرب عن اعتقاده بأن «أوكرانيا يمكن أن تعقد اتفاقيات مع دول البحر الأسود. لكن أفضل ما يمكن أن تفعله الآن هو اتفاقيات لتصدير حبوبها عبر رومانيا واليونان إلى أوروبا والبحر الأبيض المتوسط»، متهماً الغرب بـ«ازدواجية المعايير؛ فهو يحذّر من أزمة جوع عالمية، ولكنه هو الذي يمنع تصدير الحبوب إلى أفريقيا ويستحوذ على معظم الحبوب المصدّرة». ووفقاً لما هو متداول، فإن خريطة توزيع صادرات الحبوب إلى العالم تعكس خللاً كبيراً، وهي على النحو الآتي: 40 في المئة إلى أوروبا، 30 في المئة إلى آسيا، 13 في المئة إلى تركيا، 12 في المئة إلى أفريقيا، و5 في المئة إلى الشرق الأوسط.
في المقابل شنّت صحيفة «قرار»، القريبة من أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان، حملة كبيرة على بوتين، مشبّهةً إياه بالقيصر بطرس الأكبر. واعتبرت أن الرئيس الروسي، بانسحابه من اتفاقية الحبوب، «يريد تحويل البحر الأسود إلى بحيرة روسية»، مضيفةً أن «روسيا، التي لم تنل مرادها من الحرب مع أوكرانيا والتي ووجهت بخطوات تركية نحو الغرب، تزداد عزلة». وكتب أوزغين آجار، بدوره، في صحيفة «جمهورييات»، أن «طبول الحرب تُقرع في البحر الأسود، ولا سيما مع التحذيرات الأميركية ومن جانب الأمم المتحدة، وعمليات تخريب جسر كيرتش المؤدي إلى القرم واتهام روسيا الوحدات الخاصة الأوكرانية بالقيام بذلك، وأخيراً قصف روسيا وإحراقها 60 ألف طن من الحبوب كانت في مستودعات ميناء أوديسا الأوكراني». أمّا نيلغون غوموش، في صحيفة «حرييات»، فعلّقت بأن «الغرب لم يبدِ أيّ تجاوب مع المطالب الروسية، وخصوصاً أنه يعتقد أن بيع روسيا منتجاتها من الحبوب سوف يقوّي ترسانتها الحربية»، لافتةً إلى أن «الأنظار تتّجه اليوم إلى تركيا التي تعمل على أن يقدّم الطرفان تنازلات لاستئناف تفعيل الاتفاقية».