لم يعد يمرّ أسبوع من دون أن يعلَن عن ضربات جديدة تشنّها طائرات مسيّرة أوكرانية على العمق الروسي، خلقت ما هو أشبه بهجوم مضادّ «موازٍ» على الأراضي الروسية، تزامناً مع الهجوم الأول داخل أوكرانيا. وإذ تبدو نتائج الأخير «غير المُرضية» وأهدافه، واضحةً تقريباً، فإن التساؤلات تكثر حول أهداف الأول، وما سيترتّب عليه من نتائج، إذ يرى البعض فيه مجرّد محاولة لإلحاق ضرر معنوي بموسكو، فيما يحذّر آخرون من أنّه يهدف إلى استدراج روسيا إلى «حرب مدمرة أوسع»، تشمل دولاً أوروبية مجاورة، وربّما «الناتو» بأكمله.بناءً على مراقبة الوقائع على الأرض والتقارير المحلية، ورد في تقرير في «نيويورك تايمز»، أن عدد الطائرات المسيّرة التي أُرسلت إلى داخل الأراضي الروسية، بين أيار وتموز، بلغ ضعف العدد الإجمالي الذي سُجّل في عام 2022 بأكمله. وقد كانت لموسكو حصة وازنة من هذه الهجمات، بعد هجوم الثالث من أيار على الكرملين. وفي وقت سابق من الشهر الحالي، استُهدفت منطقة للأعمال في العاصمة الروسية، مرتين خلال ثلاثة أيام، جنباً إلى جنب مع مهاجمة قرى حدودية روسية، كان آخر ما استُهدف منها بلدة غوركوفسكي الواقعة قرب الحدود مع أوكرانيا، والتي أدّى ضربها، بحسب السلطات الروسية، إلى وقوع قتيل وعدد من الجرحى. وقد صعّد الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، حدّة خطابه، أخيراً، متعهداً بـ«القضاء» على الأسطول الروسي في البحر الأسود، وذلك بعد أيام من هجمات بطائرات مسيّرة أوكرانية محمّلة بالمتفجرات، أصابت ناقلة وسفينة حربية روسيّتين بالقرب من ميناء روسيٍّ رئيسي. وأمس وحده، أعلنت وزارة الدفاع الروسية إسقاط «13 طائرة مسيّرة أوكرانية، حاولت مهاجمة موسكو، وأكبر مدينة في شبه جزيرة القرم».
وغالباً ما تُقابَل الهجمات الأوكرانية التي تطاول الأراضي الروسية بتنديد دول غربية عدّة، على رأسها الولايات المتّحدة، في وقت لا تزال فيه الأخيرة تسعى إلى تجنّب أيّ صراع مباشر مع روسيا. وهو موقفٌ ينعكس أيضاً في رفض واشنطن تزويد أوكرانيا بالصواريخ البعيدة المدى، وغيرها من الأسلحة القادرة على ضرب العمق الروسي، وتجاهل إلحاح كييف المستمرّ على اقتنائها. إلّا أنه، على الرغم من هذا «التحفّظ» الأميركي، وتحديداً في ما يتعلّق بالهجمات على الداخل الروسي، فالصورة تبقى «واضحة» في نظر موسكو، ومفادها أن «الولايات المتّحدة هي التي تقف بلا شك خلف هذه الهجمات». على سبيل المثال، وفي أعقاب الهجوم بمسيّرات على الكرملين، في أيار، قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية، ديميتري بيسكوف، في إطار ردّه على سؤال، في حديث مع شبكة «سي أن أن» الأميركية، حول ما إذا كان يعتقد أن واشنطن هي المسؤولة عن الاعتداء: «من دون شك. فواشنطن تملي على كييف مثل هذه القرارات، وتحدّد أهدافها ووسائل القيام بها»، مضيفاً: «نحن ندرك جيداً أن القرارات بشأن مثل هذه الأعمال، ومثل هذه الهجمات الإرهابية، لا تُتّخذ في كييف، بل في واشنطن. وأوكرانيا تنفذ بالفعل ما يُطلب منها».
وتبقى موسكو مصرّة على رأيها، حتى لو أن بعض التقارير الإعلامية الغربية تشير إلى أن أوكرانيا استخدمت، خلال الفترة المنصرمة، ثلاث طائرات محلّية الصنع، هي: «UJ-22 AIRBORNE»، و«Bober»، وثالثة لم يُحدّد اسم لها بعد، لضرب أهداف في روسيا، بما فيها العاصمة، وفق ما استخلصته صحيفة «نيويورك تايمز» من أبحاث أجرتها في هذا المجال. وأوضحت الصحيفة أيضاً أن هذه الطائرات الثلاث استُخدمت، بشكل مباشر، في ثلاث من الهجمات على موسكو «على الأقل»، في 30 أيار و24 تموز و30 تموز. وعلى ما يبدو، لن تتوقّف الهجمات الأوكرانية قريباً؛ إذ بحسب بعض المراقبين، ثمّة أدلّة على أن أوكرانيا، تسارع، على الأرجح، إلى توسيع أسطولها المحلي من الطائرات بدون طيار، بهدف شنّ هجمات إضافية على روسيا مستقبلاً.

ما مدى الضرر المعنوي؟
نظراً إلى الضرر المادي «المحدود» الذي يترتّب على الهجمات الأوكرانية الأخيرة، بات تركيز المحلّلين منصبّاً على الضرر «المعنوي» الذي ترمي كييف إلى إلحاقه بالسكان الروس والقيادة الروسية، والذي يشمل بشكل خاص، «ضرب» سردية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حول أن الحرب ستظلّ «بعيدة» عن روسيا، «وإرهاق» المعنويات والقدرات الروسية حتى، على المدى البعيد. وفي هذا السياق، تنقل صحيفة «فاينانشال تايمز» الأميركية عن وزير الدفاع الأوكراني الأسبق، أندريه زاغورودنيوك، قوله إن هذه المسيّرات «بعثت برسالة إلى روسيا، تهدف إلى ضرب فكرة أنها لا تُقهَر، وإظهار أنه حتى عاصمتها ومراكز قوتها معرّضة للخطر»، متابعاً: «في موسكو، حيث كان السكان يعيشون حياتهم الخاصة، باتوا يعلمون أنّه يمكن الوصول إليهم حتى هناك». فإلى أيّ مدى حققت كييف أهدافها من هذه الهجمات حتى الآن؟
بات تركيز المحلّلين منصبّاً على الضرر «المعنوي» الذي ترمي كييف إلى إلحاقه بالسكان الروس والقيادة الروسية


في أعقاب هجوم الأسبوع الماضي على شارع للأعمال في موسكو، ذكرت «صحيفة كوميرسانت» الروسية أن هذه الاعتداءات قد تؤثر على «شعبية» العاصمة الروسية في مجال الأعمال، مشيرةً إلى أنّ الشركات هناك، وكذلك وزارة التنمية الاقتصادية، طلبت من الموظفين «العمل عن بُعد». إلا أنّه حتى هذه التأثيرات بقيت محدودة، بحسب «فاينانشال تايمز»، التي بيّنت أن من كانوا خارج الحيّ المُستهدف، بدوا «غير مهتمين» بالهجمات، «وقلّما يتحدثون عنها حتى». من جهتهم، يقول محلّلون عسكريون إن كييف ربّما تستخدم الهجمات أيضاً لـ«صرف انتباه» روسيا عن حربها داخل أوكرانيا، وإحباط جيشها، ما قد يجبرها على إعادة نقل عدد من الموارد إلى موسكو. غير أنه «ما من مؤشر إلى أن الكرملين قام بأيّ إعادة نشر لموارده، رداً على هذه الهجمات»، باستثناء وضع أنظمة الدفاع الجوي على أسطح المباني الحكومية في موسكو، ونشر قوات الأمن، منذ هجوم أيار، بحسب الصحيفة نفسها.
وفيما يوافق عدد من المحلّلين على أن هذه الهجمات هي بمثابة «دفعة معنوية» للأوكرانيين، و«ضربة قد تقوّض رواية بوتين المبالغ فيها عن نجاح الحرب»، على حدّ تعبيرهم، بالنظر إلى أنّها تسببت بـ«حالة كبيرة من الخوف والقلق لدى السكان»، يجادل هؤلاء، في الوقت عينه، ومن بينهم العالم السياسي، بن سودافار، في تقرير نشره موقع «ذا كونفرسيشن» الأوسترالي، بأنه قد يكون لمثل تلك الهجمات «أثر عكسي»، على اعتبار أنّها قد تعزز الدعم المحلي لسياسة موسكو الخارجية، وتُدعّم وجهات النظر المؤيدة للرئيس الروسي، ولا سيما أنّها قد تجعل بعض الأشخاص «الذين كانوا حتى الآن غير مبالين سياسياً»، أكثر تقبّلاً للحرب الأوكرانية، نتيجة لشعورهم بالخوف والتهديد المباشر.

أبعد من ذلك
ينسحب هذا الرأي على الخبير العسكري الروسي، قسطنطين سيفكوف، الذي رأى، في مقابلة مع إحدى القنوات الحكومية الروسية، أن الهجمات على موسكو «إيجابية للغاية»، لأنها ستساعد في تعبئة المجتمع الروسي ضد أوكرانيا، قائلاً، وفق ما تنقل عنه مجلة «نيوزويك» الأميركية: «أعتقد أن هذه الضربات كانت إيجابية للغاية بالنسبة إلينا، لسبب واحد بسيط، وهو أنّها ستساهم في حشد أفراد مجتمعنا، الذين سيبدأون بإدراك الظروف التي نمرّ بها». إلا أن سيفكوف نفسه دائماً ما يحذّر من أبعاد أكثر خطورة بكثير للاستفزازت الغربية، والتي تشمل استهداف الكرملين وسائر المناطق الروسية بالمسيّرات، والتصريحات «الهجومية» تجاه القيادة الروسية، ولا سيما تلك التي صدرت في فترة معينة، من قيادة مجموعة «فاغنر».
وفي هذا السياق، نبّه الخبير العسكري، في إحدى مقابلاته، إلى أن بعض هذه الممارسات، ولا سيما تلك التي قوبلت بـ«تنصّل غربي»، تهدف إلى إظهار أن «معارضة بوتين في الداخل جدية»، والإيحاء بأن ما يشار إليه باسم «الطابور الخامس» هو من يخطّط لها ويشنّها، لـ«تفعيل» معنويات المعارضة الداخلية، «ورفع شأنها». وعلى سبيل المثال، تناقلت وسائل إعلام غربية عدّة، ومن بينها شبكة «سي بي أس» الإخبارية الأميركية، تقارير مفادها أنّ «مجموعات المعارضة الروسية المسلحة» تجد في الحرب الأوكرانية «فرصة لمهاجمة بوتين في عقر داره»، فضلاً عن الضجة التي صنعتها وسائل الإعلام هذه حول تصريحات بريغوجين، في وقت سابق، والتي تحدّث فيها عن «ثورة» ستندلع في روسيا.
ومن جملة الأمور الأخرى التي حذّر سيفكوف منها أيضاً، الاستماع إلى الأصوات التي تنادي بشنّ «ضربة نووية» ولو «محدودة» لردّ الاعتداءات»؛ إذ رأى أنه يجب تنحية مثل هذه الأصوات عن «مواقع القيادة الروسية»، باعتبار أنّها قد تسهم، «عن غباء أو خبث»، في جرّ موسكو إلى «ردٍّ قاسٍ» بهدف استدراجها إلى حرب أوسع، تبدأ من بولندا، لتشمل «حلف شمال الأطلسي» بأكمله، وهو ما يندرج، بحسب سيفكوف، ضمن الأهداف البعيدة المدى للولايات المتّحدة، التي «لن تمانع» استنزاف موسكو، ومعها المعسكر الأوروبي بأكمله.