انطفأت أمس في اللاذقية ليلى نصير (1941- 2023) بعد رحلة شاقة مع الوحدة والألم والخسارات. القوس المشعّ الذي خطّته التشكيلية السورية الرائدة بجرأة وتمرّد وعنفوان، أُغلق على جسد نحيل فوق سرير في دار المسنين، كأن سيرتها المحتشدة بالاختلاف لم تحدث يوماً، على رغم حضورها النوعي في المشغل التشكيلي السوري، لفرط تشظّي البلاد الغارقة في أتون الحرب.
جالت الأرياف لرسم وجوه الفلاحات وكانت أول امرأة تقتحم مقهى شعبياً في ستينيات اللاذقية


من أعمالها

هكذا عاشت سنواتها الأخيرة بأقصى حالات العزلة والنسيان وحطام الروح، لكننا في المقابل، نعلم جيداً حجم الإرث الذي خلّفته وراءها، سواء في المشهد التشكيلي أم لجهة التمرّد الحياتي على الأعراف، ومعاكسة التيار بلا أقنعة، ففي عشرينياتها، غادرت مدينتها إلى القاهرة للدراسة في كلية الفنون الجميلة (1961)، فاكتشفت كنوز الفن المصري القديم والحديث عن كثب، وسترفد هذه الاكتشافات لاحقاً بمقترحات من النحت السوري في عجينة خاصة تحمل روحها وبصمتها، لكن مغامرة ليلى نصير الحقيقية تتمثل في تجربة العيش التي ستنعكس على مغامرتها اللونية بعمق، إذ كانت تجول الأرياف لرسم تخطيطات لوجوه الفلاحات والأطفال، كما كانت أول امرأة تقتحم مقهى شعبياً في ستينيات اللاذقية، لتسجّل انطباعاتها عمّا يمور حولها، تتأمل وجوه المارة والعابرين فترسمها على الفور بقلم الرصاص، ما جعل صاحب المقهى يحتفظ بكرسيّها إلى اليوم. ستغامر في الذهاب إلى بيروت الحرب الأهلية في منتصف السبعينيات لترسم الدمار والقتل، ثم عاودت التجربة خلال مجزرة صبرا وشاتيلا وزارت الجنوب اللبناني. وإذا بالتجربة المادة الخام لأعمالها، عدا رسم بورتريهات لأحوالها المتبدلة، كما لو أنّها تلخّص سيرتها الذاتية مثل فريدا كالو أخرى وبالجحيم الفردي نفسه.
لا نحتاج إلى نظرة متمعّنة لمعرفة توقيعها الشخصي، إذ تشع لوحتها عن بعد كفضاء مغاير لجهة تحوير الأشكال، واستثمار معطيات النحت في تشكيلات الجسد، كأن تركّب صورة حيوان مجنّح مع صورة امرأة تعيش فزعاً تاريخياً، بإحالات تعبيرية محتدمة تنتهي إلى ما يشبه الأختام الأسطوانية. لن نتجاهل إذاً، مهارتها لجهة التلخيص في الخط ورسم العيون الواسعة لتكون بؤرة اللوحة مهما كان
حجمها.
رسمت بيروت خلال الحرب الأهلية ثم عاودت التجربة خلال مجزرة صبرا وشاتيلا وزارت الجنوب اللبناني


ووفقاً لما يراه التشكيلي والناقد السوري أسعد عرابي، فإن أعمال هذه التشكيلية تمتاز «بمتانة رسمها خاصة للوجوه والأجساد الأنثوية، مغلّلة بحزن المرأة في المجتمع الذكوري المشرقي. تعكس لوحتها بالتالي عذابات الأنا العليا، ومعاناة الأنثى عند اختلائها بمرآتها السيزيفية». ويضيف: «يقترب النسق الإيقاعي للجسد نفسه ومعاودته من أنظمة رسوم المعابد المصرية ضمن تحولات خطية وتشريحية لا نهائية، ناهيك بالتبدلات الرهيفة في ألوان الإضاءة، تتحرر خطوطها من المساحات بطريقة معاصرة حدسية لا تعرف التكرار».
لعل جرأة ليلى نصير تتجلى في رسم الجسد العاري، وإبراز عناصره وتكويراته بخطوط دائرية، أو حين يتخذ بعداً هندسياً صارماً ليكوّن أرضية العمل، وحامله في تحوير الأشكال والتفاصيل الصغيرة في مساحات مهشّمة وتكوينات مهتزة، فشخوصها تمتد بجذورها إلى حالات الولادة الأولى على خلفية أسطورية مستمدة من الحضارات الشرقية القديمة بكل رموزها في الخصوبة والولادة المتجددة، لكنها بحركة ما تترك أثراً بصرياً مغايراً، يعكس هاجساً تعبيرياً يحمل بعداً مأساوياً، فالوجوه معذّبة وحزينة إلى أقصى حد، سواء كانت مرسومة بألوان الشمع، أم الباستيل أم الأكريليك، ما يمنحها بعداً حلمياً يتماهى مع كائناتها الأسطورية في بعديها الحكائي والميثولوجي. كأن لا مسافة بين حضارة أوغاريت التي نشأت في محيطها، وعسف اللحظة الراهنة. هكذا ستكتفي الآن ببياض الكفن بدلاً من قماشة اللوحة، كما لو أنها في نزهة أبدية: «أقفلُ المذياع، أخلع خفَّي، وخاتمي وساعتي وما يحيط بخصري وعنقي. أتحرر تماماً. ألمس الشمس والأرض بمساحات قدمَي، وأتلمّس اللوحة والفرشاة بأصابع يدي، بعدما أغلق النافذة ورنين الجرس والهاتف. فالحوار يجب أن يكون في داخلي كما أنّ الإحساس يجب أن ينحصر بأناملي» وفق ما قالت مرةً.