خلال الأشهر القليلة الماضية، عمدت شركة «ميتا» (مالكة فايسبوك وإنستغرام وواتساب وثريدز) إلى خفض نسبة إحالة فايسبوك للمستخدمين من المنصة إلى المواقع الإخبارية بنسبة تصل إلى 40 في المئة سنوياً. بكلمات أخرى، تعتمد المؤسسات الإعلامية على فايسبوك وغيرها لعرض وإيصال الأخبار التي تنشرها. وجزء كبير من حركة مرور المستخدمين إلى مواقع هذه المؤسسات الإعلامية، تتمّ عبر المنصات المنضوية تحت مظلّة ميتا. لكنّ الأخيرة تعمّدت الحدّ من ظهور المواد الإخبارية على منصاتها، وبالتالي انخفضت نسبة دخول المستخدمين إلى المواقع الإخبارية. وصحيح أنّ لا كلام رسمياً من جانب ميتا عن الموضوع، إلا أنّ تقريراً نشرته شبكة «سي. أن. أن» الأميركية، كشف القصة بعد تواصلها مع ستّ من أبرز المؤسسات الإعلامية الأميركية. ارتدادات ما حصل ستكون كبيرة. وأكبر المتضرّرين هم المؤسسات الإعلامية حديثة العهد، التي بنت هيكليتها على وجود منصات تواصل تصرف لها إنتاجها.
(أوليفر مانداي ــ الولايات المتحدة)

فَهم حجم الضرر الذي سيلحق بهؤلاء، يحتّم التحدّث عن مسائل أساسية. قبل ظهور منصة فايسبوك في عام 2004، كان المستخدم في أغلب الوقت يبحث عن المواضيع التي تثير اهتمامه عبر محرّك غوغل. وإذا وجد موقعاً إلكترونياً يحتوي ما يريد، حفظ اسمه وبات يدخل إليه كلما احتاج إلى ذلك. أي إنّ الدخول إلى المواقع الإلكترونية كان يتم عبر كتابة اسم الموقع مباشرة في المتصفح (مثل كروم). وتدعى هذه الطريقة «الدخول المباشر إلى الموقع الإلكتروني»، أي إنّ المستخدم لم يدخل عبر محرك البحث غوغل أو عبر رابط أرسل إليه، هو اختار بنفسه الولوج إليه. ومع ظهور فايسبوك قبل 19 عاماً، طرأت تغييرات كبيرة على الآلية السابقة. إذ بات المستخدم يقضي وقتاً أطول على منصات التواصل التي صارت مكاناً يعجّ بكل شيء. مقاطع موسيقية، روابط إخبارية تنشرها المؤسسات الإعلامية أو المستخدمين، بالإضافة إلى كل ما يتعلق بأشكال البصريات الرقمية. ومع الوقت، صارت نسبة كبيرة من عمليات دخول المستخدمين إلى المواقع الإخبارية الإلكترونية، تتم عبر ما يسمى «الإحالة من منصات التواصل». أي عندما يضغط المستخدم على رابط مقال وجده على منصة مثل فايسبوك، فيأخذه إلى موقع المؤسسة الإعلامية الإلكتروني. وفي عالم الويب، كل هذه الأمور تُسجل وتخضع للتدقيق من أجل مردود الإعلانات وفهم كيفية انتشار مواد أي مؤسسة إعلامية، والمواضيع التي لاقت استحساناً لدى القراء أكثر من غيرها، من خلال التفاعل المتمثّل مثلاً في التعليقات وزرّ الإعجاب (لايك).
مشكلة المؤسسات الإعلامية مع منصات التواصل الاجتماعي تعود إلى أكثر من عشر سنوات. تعتبر هذه المؤسسات، وهي محقة في ذلك، أنّ شبكة السوشال ميديا، مثل فايسبوك، وسّعت جزءاً كبيراً من قاعدتها الشعبية على ظهر المحتوى الإخباري والمعرفي الذي جهد صحافيون من حول العالم في صنعه. استغلت منصات التواصل جاذبية هذا المحتوى من دون تقديمها أي مردود إلى المؤسسات الإعلامية. في الواقع، هي تعاملت معها مثل أي شخص آخر وخصوصاً لناحية كلفة الإعلانات على المنصة. تصاعد هذا الصراع على مدى السنوات القليلة الماضية، مع صدور قوانين جديدة في كندا وأستراليا تجبر ميتا على دفع المال للناشرين مقابل محتواهم. لكن ماذا فعلت ميتا؟ ردّت وهددت بحظر كامل المحتوى الإخباري للمستخدمين في الولايات القضائية التي تخضع لهذه القوانين. هنا، تجدر الإشارة على الهامش إلى أنّه بعدما تبيّن أنّ أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل «تشات جي بي تي»، تم تدريبها على ملايين المقالات المنشورة على الويب، قامت مؤسسات إعلامية كبرى عدّة، من بينها «نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال»، بحظر تدريب تلك الأنظمة على المحتوى الخاص بها من دون اتفاقية مسبقة.
إنشاء تطبيقات هاتف يغني الصحافة عن منصات التواصل


على المقلب الآخر، إذا ما نظرنا إلى الصورة الكبيرة المتعلقة بمنصات التواصل الاجتماعي، نجد أنّها باتت عبارة عن صداع مؤلم لمالكيها. مشكلات خصوصية وغرامات مالية كبيرة من كل حدب وصوب، وأصوات مشرّعين تدعو إلى تفكيك هذه الشركات التي صارت أشبه بـ «مونوبولي» كبيرة. لكن إذا ما تمعّنا في قاعدة المستخدمين، نجد أزمة ثقة بينهم وبين السوشال ميديا. فالمستخدمون لم ينسوا كيف تعاملت معهم هذه المنصات أيّام جائحة كورونا، وكيف أُسكت الرئيس الـ 45 للولايات الأميركية، دونالد ترامب، أمام ناظر ناخبيه الـ 74 مليوناً. حتى مارك زاكربيرغ اعترف خلال بودكاست مع ليكس فريدمن، الشهر الماضي، بأنّه نادم على كيفية تصرّف ميتا مع المستخدمين خلال الأزمة الصحية العالمية. ولا ننس كيف تحارب شبكات التواصل أي ذكر للقضية الفلسطينية ومقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي. ولزيادة الطين بلة، يعيش العالم اليوم عصر إعادة اكتشاف الفيديو. وسط كلّ هذه الفوضى الرقمية التي تعاني منها ميتا وX (تويتر سابقاً)، نجد أنّ أرقام منصة تيك توك القائمة على الفيديوات تتقدّم بشكل كاسر للتوازن. وما التغييرات التي قامت بها ميتا إلّا أدلة واضحة على أنّ تلك المنصات تعاني أزمة وجودية انعكست أزمة هوية، كما أنّها تتخبط أمامنا، وخصوصاً بعد هجرة «الجيل زي» وعدم اكتراثه بها مفضلاً قضاء وقته على تيك توك. التغييرات تشمل على سبيل المثال إنشاء منصة ثريدز المسروقة عن تويتر التي فشلت في الحفاظ على اهتمام المستخدمين بها، بالإضافة إلى محاولة فايسبوك وإنستغرام تطوير محتوى الفيديو عبر الـ «ريلز» والـ «ستوري» وتقديم مساحة أكبر لها على حساب المحتوى الإخباري، فضلاً عن محاولة إيلون ماسك تحويل منصة X إلى تطبيق شامل مشابه لعمل «وي تشات» الصيني.
ليست كل الأمور هنا سلبية. الصحافة كانت موجودة قبل منصات التواصل وقبل الإنترنت وستبقى بعد ميتا. من الطبيعي أن يحدث خفض نسبة الإحالة من ميتا إلى المواقع الإخبارية ضرراً مالياً لناحية مردود الإعلانات، وخصوصاً على المؤسسات الإعلامية الناشئة. والأمر الإيجابي هنا، أنّ ما حصل هو بمثابة تنبيه إلى المؤسسات الإعلامية، بأنّ القواعد التي سرت خلال السنوات الماضية انتهت، ومن بالغ الأهمية بالنسبة إليها الاستثمار في أساليب تؤمّن طريقة أفضل لجهة مشاركة المواد الإخبارية مع فتح مساحة لتفاعل الجمهور. لعلّ أفضل هذه الطرق، برأي خبراء، هي إنشاء تطبيقات هاتف تضمن وصولاً مباشراً إلى الـ «ويب سايت»، ولا سيّما مع تنبيهات الأخبار العاجلة. أمر يضمن تدفّقاً جيداً لمردود الإعلانات، من دون الحاجة إلى وسيط مثل المنصات.