لأن رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عطية لم يخضع للمحاسبة رغم بيعه داتا اللبنانيين إلى السفارة البريطانية عبر منصة «إيمباكت» وشبكة الأمان الاجتماعي تحت عنوان ابتزاز الفقراء بالمساعدات المالية؛ ولأن ديوان المحاسبة الذي ثبّت مخالفات التفتيش سواء تلك المتعلقة بقبول هبة من دون التصريح عنها أو توقيع مذكرة تفاهم مع السفارة البريطانية من دون المرور بمجلس الوزراء، تراجع وسمح للجهاز بالمضي قدماً بحجة أن رقابة الديوان لاحقة؛ ولأن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي أحال عطية إلى الديوان بسبب التجاوزات والاستنسابية في مشروع الدعم، عاد وخضع لضغط السفير البريطاني وسفراء الدول الأجنبية الذين استقدمهم رئيس التفتيش إلى السراي؛ يُمعن عطية في مراكمة التجاوزات والمخالفات في بلد الإفلات من المحاسبة. ويبدو أن تجربة «إيمباكت» الاستثنائية في كشف داتا اللبنانيين والأجهزة الأمنية أمام مؤسسات غير حكومية، فتحت شهية التفتيش والرعاة الدوليين على تكرار التجربة نفسها مرة أخرى
نهاية عام 2022، أصدر رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عطية تعميماً على الموظفين والعاملين في إدارة التفتيش حمل الرقم 2/2022 بعنوان «إعادة تشغيل برنامج جدولة الوقت Timesheet». وشرح عطية في التعميم أنه سبق لإدارة التفتيش أن استخدمت برنامج جدولة الوقت على الحواسيب الموضوعة بتصرفها وباشرت بتشغيله لتحسين أساليب العمل وتحديثها، غير أن وباء كورونا أجّل تشغيله. ومع زوال العوائق، «عزمت الإدارة على إعادة تشغيل البرنامج على الحواسيب وأجهزة الهاتف الذكية الخاصة». وأوضح عطية عدة نقاط أبرزها أن «البرنامج لا علاقة له بضبط الدوام ومراقبته ولا يحل محل ساعة ضبط الدوام، بل يتعلق بإدارة الوقت واستثماره. فعندما يدرك الموظف أن الوقت عنصر ثمين وأن الوقت الذي يستغرقه أداء المهمة مسجّل، يزداد تركيزه وتتضاعف إنتاجيته». ومن خصائص البرنامج التي عدّدها عطية «لفت نظر الإدارة إلى أي تأخير حاصل في تأدية بعض المهام»، معتبراً أنه ينجز «نقلة نوعية نحو الوسائل التقنية الحديثة المعتمدة في مختلف البلدان الراقية»، وحتى «يطور التفتيش رقابته على كل الإدارات».

(هيثم الموسوي)

في العاشر من الشهر الجاري، عمّم عطية محضر اجتماع بينه وبين المفتشين العامين المالي والإداري والهندسي والصحي والاجتماعي والزراعي للتداول في كيفية تطبيق برنامج جدولة إدارة الوقت. وأورد أنه بعد النقاش والوقوف على آراء المجتمعين التي لم يعرضها في المحضر، وافق على السير في الإجراءات الآتية: 1- اعتبار الفترة الزمنية لغاية نهاية آب فترة تجريبية على البرنامج. 2- اعتماد إلزامية تطبيق البرنامج في مختلف المفتشيات العامة بدءاً من الأول من أيلول. 3- ربط صرف التعويض المؤقت المنصوص عنه في المرسوم الرقم11227 وبدلات النقل والانتقال والسفر بالتقارير المستخلصة من البرنامج. وستتولى دائرة المعلوماتية دورات التدريب كما ستخلق حسابات لكل المفتشين والموظفين والمتعاقدين والأجراء في المفتشيات العامة، وستدربهم على استخدام البرنامج بطريقة سهلة.
من الواضح أنّ ما عمّمه عطية ليس محضر اجتماع، بل قراراً إدارياً بحتاً لفرض إجراءات على الموظفين، ما أثار غضب المفتشين والموظفين واعتراضهم، وخصوصاً بعد أن أبلغهم أن استخدام التطبيق إلزامي على هواتفهم الخاصة أو اللابتوب. أما من يرفض استخدام البرنامج، فأمسكه رئيس التفتيش من اليد التي تؤلمه، أي التعويض المؤقت المقدر بأربعة أضعاف الراتب شرط الحضور 14 يوماً على الأقل شهرياً إلى المؤسسة وفقاً للدوام الرسمي. إذ ربط التعويض بالبرنامج رغم أن لا علاقة مباشرة بين المسألتين، إذ إن المرسوم يشمل كل الموظفين في كل الإدارات العامة.

الموكل بالقانون يخالفه
«الأخبار» حاولت التواصل مع رئيس التفتيش للوقوف على رأيه فكلّف أحد المفتشين، عصام شباني، الإجابة عن الأسئلة نيابة عنه. وقد أكد شباني أن «البرنامج لا علاقة له بالدوام إنما بطريقة استخدام الوقت والمهام التي ينفذها الموظف خلال دوامه». لكن، أليست مراقبة إنتاجية الموظف وعمله من مهام المفتش العام؟ أجاب: «صحيح، وسيكون البرنامج أداة بيد المفتش ليتمكن من ضبط فريقه». وعن ابتزاز الموظفين بالتعويض المؤقت لإخضاعهم رغم أن هذا البدل لا علاقة له إلا بالحضور إلى الدوام، أشار شباني أن «المرسوم 11227 يتحدث عن حضور الموظف إلى العمل وضمنياً يجب أن يكون منتجاً خلال هذه الساعات».
أما فيما يتعلق بقلق الموظفين والمفتشين والمفتشين العامين من اختراق بياناتهم والداتا الخاصة بهم، فيبدو شباني واثقاً أن هناك «خادماً خاصاً للتفتيش يتمتع بكل الحصانات اللازمة بما يجعل اختراقه مستحيلاً».
ولكن، ماذا عن الاختراق من دائرة المعلوماتية نفسها؟ يجيب شباني بأن «لكل موظف اسم مستخدم وكلمة مرور تقود إلى صفحته الخاصة وهو ما يجعل مهام المعلوماتية محصورة بهذه الصفحة لا أكثر». علماً أن تجربة منصة «إيمباكت» التي نفّذها التفتيش سابقاً لم تكن مشجعة، عندما جمعت داتا اللبنانيين وبياناتهم وصُور الأمر وكأن دائرة المعلوماتية هي من تتولى إدارة المنصة، قبل أن يتبين أن منظمة بريطانية غير حكومية تشرف تقنياً عليها، ولا قدرة لموظفي التفتيش على مجاراتها تقنياً، ما جعل كلّ بيانات اللبنانيين وبيانات الإدارات التي اشتركت في هذه المنصة على خوادم خارج لبنان، وليس معروفاً من له حق الولوج والتحكم بتلك الخوادم وسحب البيانات منها. إذاً، ما الذي يؤكد للموظفين اليوم أن البرنامج الذي يجبرهم رئيس التفتيش على استضافته داخل هواتفهم لن يبيح خصوصياتهم ومحادثاتهم واختراق كل بياناتهم وحساباتهم
الشخصية والمصرفية وغيرها؟
إلزام موظّفي التفتيش باستخدام تطبيق «جدولة الوقت» على هواتفهم الخاصة


من جهة أخرى، يثير إصرار عطية على التمسك ببرنامج جدولة الوقت ملاحظات عدة:
- تدريب الموظفين من مهام مجلس الخدمة المدنية، وبالتالي فإن عطية الموكل بمراقبة عمل الإدارات وتطبيقها القانون يقوم بنفسه بالمخالفة عبر فرز موظفي المعلوماتية للقيام بالتدريب. في حين أن تشغيل أي برنامج يتعلق بتنظيم العمل هو من صلاحيات هيئة التفتيش المركزي مجتمعة، وهو ما لم يعرضه عطية أمامها، وهذه مخالفة أخرى سبق أن قام بها عند اتخاذه قراراً بالعمل بمنصة «إيمباكت».
- سيلغي البرنامج دور المفتش العام بالرقابة التسلسلية للمفتشين العامين على الموظفين والمفتشين، ليصبح موظف المعلوماتية هو من يقيّم أداء الجميع.
- يبدو أن برنامج جدولة الوقت الإلزامي غير ملزم لرئيس التفتيش الذي لا يأتي إلى مكتبه قبل الساعة الثالثة والنصف أي بعد انتهاء الدوام.
رغم كل ما سبق، كان يمكن التعامل مع قرار رئيس التفتيش بحسن نية وبالرغبة في زيادة الإنتاجية لولا أن برنامجه يتطابق مع برنامج مشابه أعده البنك الدولي بهبة مالية مؤمنة، بما يعيد الذاكرة إلى «إيمباكت» وشبكة الأمان الاجتماعي. وللمصادفة أيضاً، فقد طلب ممثلو البنك الدولي من مجلس الخدمة المدنية إمدادهم بداتا الموظفين العامين في مختلف الوزارات والمؤسسات العامة في الدولة اللبنانية (تتضمن أسماءهم وفئاتهم العمرية وأرقام هواتفهم). إلا أن رئيسة المجلس نسرين مشموشي رفضت الطلب وأبلغت رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اعتراضها. فهل ثمة ترابط بين بدء التفتيش المركزي تطبيق البرنامج في إدارته تمهيداً ربما لتوسيع التجربة على باقي الإدارات وإباحة داتا موظفي القطاع العام لأطراف غير معروفة وغايات غير معلومة؟