رام الله | لم تكن عملية «نفق الحرية» التي وقعت في 6 أيلول 2021، مجرّد عملية انتزاع حرية قام بها 6 أسرى فلسطينيين من مدينة جنين، في أكثر سجون الاحتلال تحصيناً ومراقبة، بل مثّلت إشارة إلى انبثاق الضوء في نهاية النفق، وهو ضوء المقاومة في الضفة الغربية المحتلّة، التي قوي ساعدها بسرعة مذهلة، منذ ذلك الحدث إلى اليوم. وإذ تحلّ في هذه الأيام الذكرى السنوية الثانية للعملية، فهي تأتي بينما استطاعت المقاومة، خلال العامَين الماضيَين، تثبيت معادلة جديدة، ظهرت إسرائيل في أوقات كثيرة عاجزة عن مواجهتها، وهذا ما انعكس على واقع دولة الاحتلال رسمياً و«شعبياً». فعلى المستوى الأول، تبدو المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية قاصرةً عن اجتثاث ما أسّسته المقاومة في الضفة من خلايا عسكرية أو تشكيلات مسلحة، والأهمّ فكرة القتال وتنفيذ العمليات، كما فشلت في منع تكرار نموذج مخيم جنين، الذي انتقل إلى أنحاء الضفة كافة، حيث بات منفّذو العمليات الفدائية يَخرجون من كلّ منطقة، وآخرهم منفّذ عملية الثلاثاء في الأغوار، وهو فتًى فلسطيني يبلغ من العمر 16 عاماً، وينتمي إلى كتيبة جديدة تسمّى «كتيبة الفجر»، ومِن خَلفه منفّذ عملية باب الخليل في القدس المحتلة أمس، والتي أدّت إلى وقوع ثلاث إصابات إسرائيلية وُصفت إحداها بـ«الخطيرة».أمّا على المستوى الثاني، فيَظهر شعور المستوطنين بفقدان الأمن عالياً؛ إذ بيّن استطلاع للرأي أجرته صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية، وجود «تراجع كبير في مستوى الشعور بالأمن الشخصي بين الإسرائيليين في العام الأخير، وعدم رضا المجتمع الإسرائيلي عن أداء الحكومة، وخصوصاً أداء وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير». وبحسب الاستطلاع، فإن 68% قالوا إن بن غفير لم يفِ بالوعود التي رفعها في دعايته الانتخابية بإعادة الشعور بالأمن الشخصي إلى «مواطني إسرائيل»، بينما أفاد 55% بأن شعورهم بهذا الأمن «ضعف وضعف جدّاً»، في ما يمثّل تراجعاً كبيراً عن العام الماضي حيث كانت تلك النسبة 41%. والظاهر أن ذلك الشعور لا تفلح سياسة تكثيف اقتحامات المدن والبلدات الفلسطينية، وزيادة وتيرة العمليات العسكرية في الضفة لملاحقة المقاومين، في تبديده. وعلى رغم ما تَقدّم، لا يجد جيش الاحتلال بدّاً، وخصوصاً عقب فشل عمليته العسكرية الواسعة في مخيم جنين في تموز الماضي والتي قُتل فيها أحد جنوده، من تنفيذ عمليات سريعة تهدف إلى الاغتيال أو الاعتقال، وفي الوقت نفسه تخفيف الأضرار أو الإصابات التي يمكن أن تَلحق بجنوده، وتفادي ارتكاب مجازر في صفوف المدنيين الفلسطينيين، لما سيجرّه هكذا خيار عليه من انتقادات دولية كبيرة، وربّما من تصعيد غير مرغوب فيه. وبدا واضحاً، في خلال الأيام الأخيرة، أن إسرائيل عزّزت من اعتمادها على تلك السياسة، حيث اقتحمت مخيم جنين، صباح أمس، للمرّة الثانية خلال أقلّ من 48 ساعة، بقوات كبيرة من محاور عدّة، لتندلع اشتباكات مسلّحة بين المقاومين وعناصر من الوحدات الخاصة التي حاصرت منزلاً في محيط مسرح الحرية. وتركّزت العملية الأحدث خلف المسرح المذكور، حيث اقتحم جنود الاحتلال منزل إبراهيم عيد نغنغية، بحجّة البحث عن نجله محمد، أحد قادة المقاومة في المخيم، والذي تمكّنت من اعتقاله بالفعل، قبل أن تُعلن «إذاعة الجيش» أنه «مسؤول عن سلسلة من عمليات إطلاق النار في جنين». وفي التفاصيل، فإن نغنغية وصل إلى منزله في الرابعة فجراً ورجله مكسورة، لتلحقه قوات خاصة من جيش الاحتلال وصلت إلى المكان بمركبات مدنية مصفحة، وسرعان ما استولت على عدد من المباني في محيط المنزل وحوّلت ساكنيها إلى دروع بشرية. وعلى إثر ذلك، اندلعت مواجهات عند اكتشاف أمر القوة الإسرائيلية من قِبل المقاومة، الأمر الذي دفع قوات الاحتلال المدرّعة، والتي كانت على أهبة الاستعداد لاقتحام المخيم بنحو 50 آلية عسكرية، إلى التحرك. وتعرّض نغنغية، في حزيران 2023، لمحاول اغتيال أو اعتقال فاشلة في مخيم جنين، استشهدت على إثرها ابنة شقيقه، الطفلة سديل نغنغية، في 21 حزيران، متأثّرة بجروح أصيبت بها في الرأس. كما يعدّ نغنغية الصديق المقرّب إلى زكريا الزبيدي، قائد «كتائب شهداء الأقصى»، والذي كان أحد فرسان عملية «نفق الحرية».
إسرائيل اعتمدت، بعد اجتياحها الواسع لمخيم جنين، على القيام بعمليات مكثّفة وخاطفة


وسبق عملية الأمس، بساعات عدّة، عدوان واسع على مخيم نور شمس قرب طولكرم، فجر الثلاثاء، بدأ باقتحام قوات كبيرة من جيش الاحتلال المخيم برفقة آليات عسكرية وجرافات، لتقوم بتجريف الشوارع الرئيسة في المخيم وتدمير البنية التحتية، ويسفر عدوانها عن استشهاد الشاب عايد سميح خالد أبو حرب (21 عاماً) بعد إصابته برصاصة في الرأس، في حين تصدّت المقاومة للاقتحام واستطاعت إعطاب العديد من الآليات العسكرية بالعبوات الناسفة. وبين الاقتحامين، نفّذ الفتى محمد زبيدات (16 عاماً)، مساء الثلاثاء، عملية إطلاق نار استهدف خلالها قوات الاحتلال قرب قرية الزبيدات الواقعة في محافظة أريحا في الضفة، ما أسفر عن إصابة أحد الجنود بجروح «متوسّطة». وبحسب التقارير الإسرائيلية، فقد باشر الفتى إطلاق النار تجاه جنود العدو الذين كانوا يجرون عمليات تمشيط في المنطقة بحثاً عن شاب أطلق النار في وقت سابق قرب مجمع مطعم «تسيبورا» في غور الأردن، ليتّضح، في التقارير العبرية اللاحقة، أنه هو الشخص نفسه، علماً أنه اعتُقد ابتداءً أن عملية «تسيبورا» جنائية الطابع.
بالنتيجة، بات واضحاً أن إسرائيل اعتمدت، بعد اجتياحها الواسع لمخيم جنين، على القيام بعمليات مكثّفة وخاطفة، وهو ما يبدو أنها ستستمرّ فيه في الفترة المقبلة، بعد استنفاد المؤسّستَين العسكرية والأمنية، منذ ما يقارب عامين، جميع أدواتها واستراتيجياتهما في مواجهة المقاومة في الضفة، بدءاً بعمليات «كاسر الأمواج»، مروراً بالعودة إلى الاغتيالات، وصولاً إلى تنفيذ هجمات واسعة على غرار اقتحام جنين، وحتى تنفيذ اغتيالات في قطاع غزة لقادة من المقاومة ذوي صلة بالعمل المقاوم في الضفة. وتعتقد إسرائيل أن الأسلوب الجديد في العمل قد يستنزف المقاومة، فيما الواقع يقول إن ازدياد جرائم الاحتلال لا يفعل أكثر من تسعير المواجهة وتوسيع دائرتها، وخصوصاً أن المقاومة التي بدأت شرارتها في جنين، باتت اليوم منتشرة في كل أنحاء الضفة، مستقطبةً شرائح جديدة من المقاومين غير المعروفين، مع ما يرافق ذلك من تطوّر في الأداء، واستهداف لمناطق كانت تُعدّ «آمنة» من مثل منطقة الأغوار التي تحوّلت إلى «منطقة الموت».
وفي هذا السياق، يعتقد الكاتب والمحلّل، عماد أبو عواد، في حديث إلى «الأخبار»، أن «إسرائيل تستنزف نفسها في الحقيقة»، مشيراً إلى أنها «في عملياتها الخاطفة، تعتقل مقاومين فلسطينيين هم في الأصل معروفون للجميع، وهؤلاء تأثيرهم المقاوم على إسرائيل ليس كبيراً، لأن حالة المقاومة في الضفة يقودها أفراد غير معروفين لدى الاحتلال، وهذا ما يظهر في العمليات الفدائية التي تحدث». ويضيف أبو عواد أن «الاحتلال لم يستطع مواجهة الحالة الفكرية، فالمقاومة الفلسطينية اليوم لم تَعُد مرتبطة بجسم تنطلق من خلاله، وإنما أضحت حالة فكرية تولّد اشتباكاً مستمرّاً، ينخرط فيه أشخاص خارج الرادار الأمني الإسرائيلي؛ وبالتالي، إسرائيل تحاول الوصول إلى منفّذي العمليات بعد وقوعها وليس قبلها، وهذا ما يؤكد صعوبة المسألة». إزاء ذلك، يبرز سيناريوان للفترة المقبلة: أوّلهما، بحسب أبو عواد، «استمرار التصعيد على ما هو عليه حالياً، أي عمليات فدائية بين الحين والآخر يقوم بها الفلسطينيون، ويقابلها ضغط إسرائيلي بأشكال مختلفة من استيطان واقتحامات»؛ وثانيهما، «الانتقال إلى مرحلة تصعيد أعلى بأن يقع حدث كبير يؤدي إلى دخول أكثر من ساحة على خطّ المواجهة، وهو ما لا يبدو مستبعداً، وخاصة في ظلّ انغلاق الأفق السياسي في المنطقة، وعدم قدرة إسرائيل على اجتثاث المقاومة كفكرة وممارسة».