القاهرة | لا أحد في مصر اليوم يريد أن يتذكّر سيد درويش (1892 ـــ 1932) ربما اتقاءً لأغنياته الوطنية التي لم تخل من انتقادات لاذعة للسلطة وصنّاع القرار. يأتي ذلك تماهياً مع الفترة التي تعيشها مصر حالياً وتنظر إلى الغناء الوطني بعين واحدة فقط هي المدح على طول الخط، وتبجيل أي خطوة يقوم بها رأس الدولة فقط. نغمة لا تشذ عنها أي منصة إعلامية كبرى في البلاد بسبب سيطرة شركات محددة على سوق الإنتاج والعرض والطلب، أبرزها طبعاً «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» المملوكة للدولة. هكذا، لا يمكن أن يُعاد تقديم أغنية «شد الحزام على وسطك» التي ألّفها بديع خيري ولحنها وغناها سيد درويش. أغنية تدعو كلماتها إلى التقشف وتنتقد أوضاعاً اقتصادية شبيهة بما تمرّ به المحروسة اليوم.
سيد درويش بريشة التشكيلي الراحل حسين بيكار

ورغم أن هذه الفترة تشهد الاحتفال بمئوية سيد درويش في مصر، إلا أن الاحتفال الرسمي تقريباً اقتصر على بيان من وزارة الثقافة المصرية، قالت فيه إن هناك فعاليات عدة للاحتفال به، منها حفلة لـ «فرقة الموسيقى العربية» في دار الأوبرا في القاهرة، وندوة ثقافية، وصالون ثقافي في مسقط رأسه في أوبرا الإسكندرية. وضمن برنامج وزارة الثقافة أيضاً ندوة للموسيقار هاني شنودة للحديث عن مواقفه الوطنية والأغاني التي أثّرت في وجدان المصريين وفق بيان وزارة الثقافة. لكنّ هذا الاحتفال لا يحظى بالوهج المطلوب لمناسبة مميزة هي مئوية الموسيقار الأهم ومجدد الموسيقى في مصر في القرن العشرين، كأن وزارة الثقافة تريد أن تؤدي واجباً عليها، فلا يمكن القول إنها لم تحتفل وتجاهلت الذكرى، وفي الوقت نفسه لا يمكن القول إنّها احتفلت فعلاً، وأشعرت المصريين بأنّ هناك احتفالات بسيد درويش وأغانيه.
فقر الاحتفالات الرسمية بمئوية درويش، جعل متابعين يدعون إلى وضع صورته على صفحاتهم الشخصية على فايسبوك احتفالاً به، وطالب آخرون بأن تمتدّ الاحتفالات على مدى شهر كامل، حتى تليق بأول من وضع أسس نهضة الموسيقى المصرية باعتراف موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في مقال نعاه فيه عقب وفاته. كما أعلنت مؤسسات غير حكومية عن الاحتفال بمئوية درويش، مثل نقابة الصحافيين المصرية التي بدأت بحفلة للمطرب علي الحجار.
بداية درويش كانت من الإسكندرية حيث ولد، ثم تعلّم في الأزهر، بعدها غنّى صغيراً في المقاهي، مردداً ألحان مشايخ هذه الفترة أمثال الشيخ سلامة حجازي، وهو مطرب وملحن مصري ذائع الصيت في نهاية القرن الـتاسع عشر وبداية القرن العشرين. كما غنّى للعمّال في فترة اشتغل فيها عاملاً للبناء بعدما اضطر إلى ذلك نظراً إلى زواجه في سن صغيرة. وفي هذا الإطار، التقى بالأخوين أمين وسليم عطا الله في عام 1908، وسافر معهما للعمل في الشام. خلال تلك الفترة، أتقن سيد درويش العزف على العود وكتابة النوتة الموسيقية لتبدأ مسيرة «فنان الشعب» الذي نعرفه في الظهور على مسرح الفن المصري عند العودة من الشام. يعود درويش، فيدعوه الشيخ سلامة حجازي الذي كان درويش يردد أغنياته صغيراً، إلى القاهرة ليعمل فيها ويبدأ بالتعرف إلى فنانين قدم لهم ألحاناً عدة مثل الفرق المسرحية الأكثر شهرة في ذلك الوقت لفنانين كبار مثل علي الكسار ونجيب الريحاني.
عٌرف سيد درويش بأنه الملحن الأشهر في مصر في ذلك الوقت. أسهمت في هذه الشهرة قيام ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنكليزي، إذ ارتبطت ألحان درويش بهذه الثورة إلى حد كبير، حين لحن أغنية «قوم يا مصري» التي يقول مطلعها «قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك». قدّم ألحاناً أخرى في مساندة الثورة ومطالبة الإنكليز بإعادة سعد زغلول من المنفى، إذ أقصوه إليه عقاباً على ثورة 1919، فقدم أغنية «زغلول يا بلح يا بلح زغلول.. يا روح بلادك ليه طال بعادك». وفي السياق نفسه جاءت أغنية «أنا المصري كريم العنصرين».
أسهم درويش في تقديم أغنيات وطنية أخرى عبر المسرح مع صديقه الكاتب بديع خيري مثل أغنية «بنت مصر» التي قدمها الثنائي درويش وخيري في مسرحية «قولوله» بعدما قُتلت فتاتان في الثورة، واعتبر مؤرخون هذه الأغنيات بمثابة المحرك الذي حرّض الناس على النزول إلى الشارع والتظاهر ضد الإنكليز.
وما جعل سيد درويش «فنان الشعب» أنّه قدم الألحان التي تهتمّ بقضايا المجتمع المصري وطبقاته الكادحة، وهو ما أوصل ألحانه إلى جموع المصريين باعتبارها تعبّر عن أحوالهم في المقام الأول مثل أغنية «الحلوة دي». لحن «فنان الشعب» نشيداً ألّفه محمد يونس القاضي عام 1923 احتفالاً بعودة سعد زغلول من المنفى، وهو النشيد الذي يقول مطلعه «بلادي بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي» الذي تحول عام 1979 إلى النشيد الوطني لمصر بقرار من الرئيس الراحل محمد أنور السادات.
حال أحفاد سيد درويش، ليست بعيدة عن الاحتفال بمئويته، إذ نشرت ابنة المطرب والفنان إيمان البحر درويش (مواليد 1955 ووالده محمد البحر درويش ابن سيد درويش) أخيراً صورة له من على فراش المرض. صورة انتشرت بكثافة شديدة، مع تعليقات وانتقادات موجّهة ضد النظام المصري والحكومة، ما دفع «الشركة المتحدة» إلى الإعلان عن تبنيها حالته وعلاجه. والسبب في هذه التعليقات كان خروج حفيد سيد درويش ــ أي إيمان البحر درويش ـــ في فيديو على موقع فايسبوك في تموز (يوليو) 2021، استخدم فيه ألفاظاً وأصواتاً وصفت وقتها بالمشينة، وقال في الفيديو إنه تعرض للظلم، وإنّ الأمن المصري لديه «جبروت»، وطالب الرئيس السيسي برفع الظلم عنه، مهدّداً بأنه سيفعل «أشياء لا يعلمها أحد». كما حذر الرئيس المصري من اعتقاله، وهدّد بأنّه لو حدث ذلك له أو لأولاده، «فسيعرف العالم كله بالظلم الواقع عليه». نتيجة لذلك، رفع محامون دعاوى قضائية ضد إيمان البحر درويش بتهمة إهانة رئيس الجمهورية، وتهمة نشر أخبار كاذبة وإثارة الرأي العام، بعدما واصل الهجوم على الرئيس المصري بألفاظ شديدة القسوة تعليقاً على أزمة سد النهضة مع أثيوبيا.
أول من وضع أسس نهضة الموسيقى المصرية باعتراف «موسيقار الأجيال» محمد عبد الوهاب


هذا الهجوم هو ما جعل الجمهور يقول إنّ الدولة تنتقم من إيمان البحر درويش، وقد اعترفت ابنته أمنية التي نشرت صورته في منشور لها على فايسبوك بأنّ والدها من «المغضوب عليهم» وأنّ ابنه إسلام المتّهم بقتل أحد الأطفال بسيارته «لا يعامل كابن لفنان داخل الحبس». منشور تبعته وقتها بالصورة الشهيرة لأبيها وهو مريض. وحين أعلنت «الشركة المتحدة» عن تكفّلها بعلاج إيمان البحر درويش على نفقتها، ربط كثيرون بين ما قالته ابنته أمنية عن الغضب على أبيها، ومحاولة الشركة تجميل وجهها في مواجهة هذه الأقاويل. ما أوصله إلى الحالة التي ظهر عليها في صورة ابنته، يعود إلى عام 2017 حين كان إيمان البحر يحاول العودة لمنصبه كنقيب للمهن الموسيقية، في وقت شُطب فيه اسمه من عضوية النقابة، ما أدى إلى اندلاع مشكلة بينه والنقابة، زادت على إثر إحيائه حفلةً، فقدّمت النقابة بلاغاً ضده للنائب العام من أجل التحقيق معه. أمر تسبّب في دخوله في غيبوبة، ثم اختفى بعدها لفترة طويلة. لم يكسر غيابه سوى طلب ابنه إسلام الدعاء له عبر صفحته على فايسبوك. ثم خرج إيمان نفسه في أحد البرامج ليؤكد على تعافيه من الشلل النصفي الذي أصابه على إثر جلطة في الدماغ.
عاد حفيد سيد درويش إلى الضوء في أمسية على مسرح جده في الإسكندرية، حيث غنى مجموعة من ألحانه في ختام «مهرجان الأوبرا» الصيفي في ذلك الوقت، كما أحيا حفلةً في «مهرجان القلعة للموسيقى والغناء» في القاهرة بدورته لـ27، ليختفي مرة أخرى بسبب المرض. وقد كرس إيمان البحر درويش (مواليد 1955)، جزءاً كبيراً من حياته لإحياء تراث جده الفني، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير، إذ قدم، في الثمانينيات، أول ألبوماته «الوارثين» الذي خُصِّص بالكامل لأغنيات لجده أو من ألحانه، كما قدم عدداً من أغانيه بتوزيعات جديدة.
في 15 أيلول (سبتمبر) 1923، توفي الجدّ سيد درويش. يُثار دائماً خلاف حول ما إذا كانت المخدرات هي السبب الرئيس في موته، لكنه ترك بصمته العميقة على تاريخ الموسيقى العربية ووصف بمجدّدها وباعث نهضتها. مات وهو في الـ31 عاماً فقط، لكن لا تزال مصر تنشد لحنه الخالد كل يوم «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي».