رام الله | بشكل مباغت، نفّذ جيش الاحتلال، مساء أمس، عملية عسكرية جديدة في مخيم جنين، كان رأس حربتها القوات الخاصة التي تسلّلت إلى المخيم، وحاصرت منزل قائد «كتائب شهداء الأقصى»، محمد أبو البهاء، قبل أن تتعزّز بعشرات الآليات العسكرية المصفّحة ومئات الجنود. وقال شهود عيان في مخيم جنين، لـ«الأخبار»، إن الاشتباكات بدأت مع اكتشاف تسلّل القوات الخاصة، وهي كانت الأعنف منذ أشهر، ومن مسافة قريبة لا تتعدّى 40 متراً بين المقاومة وجنود العدو. كما تخلّلها إطلاق نار كثيف وتفجير عبوات ناسفة محلّية الصنع، استمرّا حتى انسحاب قوات الاحتلال. ولفتت المصادر إلى أن هذه الأخيرة فشلت في اعتقال أبو البهاء الذي تمكّن من الانسحاب من المنزل المحاصر، بفعل الطوق الذي فرضه المقاومون، من الفصائل كافة، حولها واشتباكهم معها، في تجلٍّ عملي لعقيدة مخيم جنين الأمنية والقتالية المتمثّلة في وحدة الدم والاشتباك.هكذا، يرسّخ المخيم، يوماً بعد آخر، استثنائيّته ونموذجيّته في المقاومة والفداء بالدم، الذي لا يبخل المقاتلون به في كلّ اشتباك مع الاحتلال. ولعلّ العملية الأخيرة كانت برهاناً واضحاً على ذلك؛ إذ حاصر جنود العدو منزل أحد قادة «كتائب شهداء الأقصى»، فاندفع مقاتلو «كتائب القسام» و«كتيبة جنين» (سرايا القدس)، إلى جانب مقاتلي الأولى، للدفاع عن المقاوم المحاصَر. والواقع أن هذا البرهان ليس الوحيد أو الأوّل من نوعه، بل إلى جانبه دلائل أخرى من بينها فشل جيش الاحتلال حتى الآن في الوصول إلى منفّذ عملية حوارة (19 آب) التي قُتل فيها مستوطنان اثنان، والذي ترجّح التقديرات الأمنية أنه متواجد في المخيم، شأنه شأن الشهيد عبد الفتاح خروشة الذي تحصّن هناك بعد تنفيذه عملية إطلاق نار في حوارة أيضاً، في ما دلّ ولا يزال على أن «جنين» باتت الحاضنة الأكثر أمناً للمقاومين.
وعلى رغم أن حصيلة شهداء العدوان الأخير ارتفعت، صباح أمس، إلى أربعة هم: محمود السعدي (23 عاماً)، محمود عرعراوي (24 عاماً)، رأفت خمايسة (22 عاماً)، وياسر موسى (29 عاماً)، إلّا أن العملية مُنيت بالفشل، على الأقلّ من النواحي العسكرية والأمنية والاستخباراتية، وذلك لأسباب عدّة، أوّلها أن الهدف المعلَن لقوات الاحتلال كان اغتيال المقاوم أبو البهاء أو اعتقاله، باستخدام أسلوب «طنجرة الضغط» القائم على محاصرة المنزل وإطلاق النار الكثيف والصواريخ عليه، ما يضطرّ ساكنه إلى الاستسلام أو يودي به شهيداً، لكن المقاومين تمكّنوا من مساعدته على الانسحاب من خلال الاشتباك وجهاً لوجه مع جنود العدو. وثاني تلك الأسباب، أن جيش الاحتلال، ولمّا أدرك فشل عمليته، لجأ إلى القتل للتغطية على إخفاقه، لا بل إنه ونتيجة عدم قدرته على التحرّك في المخيم بسبب الخشية من الكمائن، استعان، للمرّة الثانية، بالطائرات الانتحارية «ماعوز»، والتي قام بتفجير إحداها بالقرب من مقاومين. ويعكس اعتماد العدو على هذه الطائرات شراسة الاشتباك في المخيم، وهذا بحدّ ذاته يعمّق قلق إسرائيل من تطوّر حالة المقاومة هناك، ومن تراجع قدرة جنودها على التحرّك بوجهها.
أمّا ثالث الأسباب، فهو أن العملية أثبتت، مرّة جديدة، فشل العدوان الواسع الذي شنّه الاحتلال على مخيم جنين تحت شعار «البيت والحديقة» في تموز الماضي، والذي تبجّح قادة العدو، وقتها، بأنه ألحق ضرراً كبيراً بالمقاومين، في حين برهنت المقاومة اليوم على قوتها وقدرتها على الاشتباك والمواجهة بشكل أكبر من أيّ وقت مضى. ويُضاف إلى ما تَقدّم، رابعاً، أن العبوات الناسفة وكمائن المقاومة لا تزال تشكّل رعباً للاحتلال، وخصوصاً أن المقاومين أكدوا إيقاعهم إصابات في صفوف جنوده، فيما لا يزال العدو يحجم عن الاعتراف بأيّ خسائر بشرية، مكتفياً بالإقرار، للمرّة الثانية خلال ثلاثة أشهر، بتعطّل مركبة عسكرية إسرائيلية حديثة الصنع من نوع «النمر» نتيجة تفجير عبوات ناسفة فيها خلال العملية. وفي هذا الإطار، اعتبرت وسائل إعلام عبرية أن «الاشتباكات في مخيم جنين بهذه القوة، وتفجير عبوة ناسفة في مركبة وإعطابها، يشير بشكل واضح إلى أن العملية الموسّعة قبل شهرَين ونصف شهر لم تحقّق أيّ إنجازات عمليّاتية».
اعتادت إسرائيل، في السابق، الوصول إلى منفّذي العمليات الفدائية في غضون ساعات أو بضعة أيام


ولم يقتصر العدوان الأحدث على مخيم جنين، بل شنّ جيش الاحتلال، ليل الثلاثاء - الأربعاء وفجر الأربعاء، حملة مداهمات واقتحامات في مناطق متفرّقة من الضفة، تخلّلتها اشتباكات مسلّحة كان أبرزها في مخيم عقبة جبر في منطقة أريحا.
واقتحمت قوة إسرائيلية خاصة المخيم، حيث تصدّت لها مجموعة من المقاومين، ما أدّى إلى استشهاد الشاب ضرغام الأخرس (19 عاماً)، جرّاء إصابته بشكل حرج برصاصة في الرأس، ليرتفع عدد الشهداء في فلسطين في أقلّ من 24 ساعة إلى 6، بعد استشهاد الشاب يوسف رضوان من قطاع غزة (25 عاماً) متأثّراً بجروح أصيب بها عند السياج الفاصل لمدينة خانيونس في قطاع غزة. والظاهر أن العملية الأخيرة في مخيم جنين، ستتكرّر مستقبلاً، وربّما بصورة أوسع ممّا جرى، على رغم محاولة إسرائيل إعطاء فرصة للأجهزة الأمنية الفلسطينية للعمل. إذ إن الاعتبار الأهمّ الذي يحرّك دولة الاحتلال الآن، على ما يبدو، هو رغبتها في عدم تكريس وضع المخيم كحاضنة للمقاومين وملجأ لمنفذي العمليات، وبالتالي، فهي لن تبقى منتظِرةً لدى حصولها على أيّ معلومة أمنية.
لقد اعتادت إسرائيل، في السابق، الوصول إلى منفّذي العمليات الفدائية في غضون ساعات أو بضعة أيام، لكن التحوّل الذي يرافق نهوض المقاومة في الضفة، يتمثّل في ولادة حواضن آمنة نسبياً للمقاومين، على رأسها مخيم جنين. وتدرك إسرائيل أن تكريس هذه الفكرة سيشجّع المزيد من المقاومين على تنفيذ عمليات فدائية، بعد أن يضعوا خطّة للوصول إلى المخيم، مع ما يعنيه ذلك من تقوية شوكة المقاومة فيه، أو خلق حواضن جديدة وسرّية من دون علم مخابرات الاحتلال بعيداً عن «جنين»، بالسير على هَدي هذا الأخير. ولعلّ تلك المخاوف تتعزّز شيئاً فشيئاً بالتجربة الملموسة؛ إذ مرّ شهر كامل على تنفيذ عملية حوارة في 19 آب، من دون أن يتمكّن الاحتلال بكلّ أجهزته العسكرية والأمنية والاستخباراتية من الوصول إلى منفّذها، وهو ما يعني استفادة مَن قام بها من تجارب المقاومين الآخرين في الاختفاء، والتخطيط الجيّد قبل التنفيذ والوعي الأمني والاستخباراتي بَعده. كما فشل العدو، أيضاً، في الوصول إلى منفّذي عملية إطلاق نار استهدفت مركبة إسرائيلية قرب مفترق الحمرا في الأغوار وأصيبت فيها مستوطنة بجروح، فضلاً عن منفّذَي عملية إطلاق نار طالت مركبة للمستوطنين وأصيب فيها مستوطنان اثنان قرب بيتا الثلاثاء الماضي، وانسحب على إثرها المنفّذان من الموقع بسلام.
في المقابل، تدرك المقاومة حجم التعقيدات والضغوطات والملاحقات التي تتعرّض لها، وسط قلّة إمكاناتها، لكنها رغم ذلك تسعى إلى تعزيز فكرة الحواضن الآمنة، على غرار ما جرى قبل الانتفاضة الثانية في مخيم جنين والبلدة القديمة في نابلس وغيرهما، وهذا ما سيدفع، في الواقع، في حال نجاحه، إلى تنفيذ المزيد من العمليات الفدائية، ويعزّز من تواجد المقاومين سويّة، وبالتالي يساعدهم على تحسين خبراتهم ومراكمتها. كما سيخلق صعوبة بالغة لدى قوات الاحتلال في الوصول إليهم داخل الحواضن الأمنية كون دخولها بات يشكّل خطراً عليه، ويوفّر لهم في الوقت نفسه فرصة للانسحاب، الأمر الذي يفسّر لجوء العدو، من وقت إلى آخر، إلى تنفيذ عمليات اغتيال سريعة وقاسية لمنفّذي الهجمات الفدائية، بهدف كيّ الوعي وتعزيز قوة الردع الإسرائيلية.