مع بروز اضطراب واضح في إدارة فرنسا لأزمة علاقتها مع النيجر، عقب الانقلاب الذي شهده هذا البلد، في نهاية تموز الماضي، وأُزيح بموجبه الرئيس المدعوم من باريس، محمد بازوم، خرج الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون (مساء 24 الجاري)، ليعلن عزْم بلاده على إنهاء وجودها العسكري في النيجر، وسحْب القوّة البالغ قوامها 1500 جندي "تدريجيّاً، بحلول نهاية العام الجاري على الأرجح"، وكذلك السفير الفرنسي، سيلفان إيتيه، في قرار يؤشّر خصوصاً إلى مزيد من التراجع الفرنسي في غرب أفريقيا، والقارة الأفريقية عموماً. وفيما سادت خيبة الأمل في باريس على خلفيّة التطوّرات التي تلت اتهامات نيامي لها بالعمل على "زعزعة الاستقرار في النيجر"، بدت الاستجابة الشعبية النيجرية حماسية للغاية ردّاً على قرار باريس الانسحاب، لكون الخطوة تمثّل، بحسب الجماهير، "انتصاراً للإرادة النيجرية، وبداية نهاية للوجود الفرنسي في البلاد". وفي هذا الإطار أيضاً، رحّب "المجلس العسكري" الحاكم في نيامي بالخطوة الفرنسية، التي عنت ضمناً نجاح "سياسة النفَس الطويل" المتبعة من جانبه، منذ آب الماضي. وكان "المجلس العسكري" قد اتّهم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بإعاقة المشاركة الكاملة لدول غرب أفريقيا (ومن بينها النيجر) في اجتماعات الجمعية العامة، إرضاءً لفرنسا (أكدت في كلمتها أن المساواة بين الدول أمر لا جدال حوله) وحلفائها.
تطوُّر التصعيد الفرنسي - النيجري
تصاعدت حدّة التوتّر والاتهامات المتبادلة بين نيامي وباريس، اعتباراً من منتصف الشهر الجاري، في ظلّ تصميم الأخيرة على موقفها بعدم سحْب سفيرها، على رغم منْح المجلس العسكري إيتيه (في آب الماضي) مهلة 48 ساعة لمغادرة البلاد، بعد اتهامه بـ"دعم جماعات إرهابية" و"زعزعة استقرار البلاد". وتزامن التوتّر بين الجانبين مع إعلان القيادة العسكرية النيجرية، مطلع أيلول الجاري، عن فتح المجال الجوي للبلاد أمام جميع الرحلات الجوية، باستثناء تلك التابعة للخطوط الجوية الفرنسية (والتي تستحوذ في واقع الأمر على أغلب الرحلات المتّجهة إلى نيامي)، فيما تطوّر الأمر لاحقاً مع قرار العسكر، صباح الأحد، منْع تحليق إحدى الطائرات الفرنسية في أجواء النيجر، التي كانت قد منعت، أخيراً، الرحلات الجوية العسكرية الطابع، والرحلات الخاصة من أيّ دولة كانت "من دون ترخيص مسبق". ويضرّ القرار الآنف شركة "إير فرانس" التي باتت محظورة من التحليق فوق نحو نصف مساحة إقليم الساحل، مع ما يعنيه ذلك من اضطراب خطط عملها وارتفاع تكاليف التشغيل، بحسب تقرير لـ"راديو فرنسا الدولي" (25 أيلول).
وسعت فرنسا للضغط على النيجر (ومالي وبوركينا فاسو) عبر تعليقها إصدار تأشيرات سفر للطلاب من هذه الدول للدراسة فيها، في قرار امتدّ سريانه على الطلاب الذين يتمتّعون بمنح علمية في فرنسا، وانتهت تأشيراتهم بالفعل. وأرجعت الحكومة الفرنسية الخطوة (20 أيلول)، إلى "أسباب أمنية"، قالت إنها "حالت دون إصدار تأشيرات جديدة" لمواطني هذه الدول الثلاث، غير أن القرار وُصف في دوائر علمية فرنسية بأنه "نتيجة تدهور علاقات فرنسا بالدول الأفريقية الثلاث، وليس لأسباب أمنية".
يُتوقّع أن تبادر الصين إلى أداء دور بديل للحضور الفرنسي في غرب أفريقيا


ويمثّل رحيل فرنسا عن النيجر ضربةً موجعة لجوهر سياساتها الأفريقية، والتي اعتمدت بقوّة على استمالة حكّام الدول الأفريقية وتمرير كل سياساتها الاستغلالية وغير المنطقية في بعض الأحيان (من قَبيل التلاعب بملفّ مكافحة الإرهاب في الساحل، والتدخّل السافر في شؤون دوله بعد الانقلابات العسكرية)، كما أن سحب القوات الفرنسية من النيجر سيعني خروجاً فرنسيّاً إضافيّاً من ساحات الصراع في القارة، من دون توفّر بديل ملائم لاستقبال تلك القوات، مع ورود تقارير عن تحفّظ تشادي إزاء مثل هذه الخطوة لاعتبارات عدّة، أهمّها تفادي مزيد من التوتّر داخل القوات المسلّحة التشادية أو قطاعات معتبَرة من الشعب التشادي، ولا سيما في المناطق الشمالية.
كما أن الفترة الوجيزة التي حدّدها ماكرون لخروج قواته (نحو شهرين فقط من الآن) تؤشّر بقوة إلى ضغوط كبيرة من قِبَل نيامي مدعومة بنجاحها في تفادي ضربة عسكرية مخطَّط لها من قِبَل "الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" (إكواس) (حتى اللحظة)، ونجاعة ردّ العسكريين العملي على تأييد فرنسا العلني والمباشر لمثل هذه الضربة التي كانت مقرّرة قبل أسابيع، وإلى أن فرنسا استجابت بشكل فوري للإنذار الذي وجّهه العسكر إليها بضرورة مغادرة سفيرها وقواتها، ما يشير في المحصّلة إلى تغيّر معادلة الحضور الفرنسي في النيجر خاصة، وإقليم الساحل بشكل عام، مع تآكل بات مزمناً ومتصاعداً في هذا الحضور برمته.

التشابكات الدولية: ترقُّب صيني وروسي
رأى "المجلس العسكري" الحاكم في نيامي أن قرار باريس سحْب سفيرها وقواتها من البلاد، يمثّل خطوة إلى الأمام على طريق "ترسيخ سيادة النيجر"، فيما وصَف مراقبون أفارقة الخطوة بـ"المهمّة للغاية" في سبيل إزالة الاحتقان الحالي في إقليم غرب أفريقيا وتخفيف الضغوط على مجموعة "إكواس" للقيام بتحرّك عسكري ضدّ النيجر، وهو ما يعني انتصاراً واضحاً للآراء المعتدلة داخل المجموعة نفسها، والمنبّهة إلى خطورة أيّ عمل عسكري وتكاليفه البشرية والأمنية البالغة الخطورة على مجمل الأوضاع في الإقليم. كما أن الخطوة بأبعادها الإقليمية الراهنة، لجهة ترحيل حلول "إكواس" العسكرية، تضيف بعداً آخر لتمكُّن حكومة نيامي الحالية من تجاوز الضغوط نسبيّاً.
وعلى رغم ارتفاع أسعار السلع الأساسية جرّاء العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الجماعة الاقتصادية، إلّا أن النيجر وجدت متنفّساً رئيسيّاً في فتح الجزائر (وعدد من دول الجوار) قنواتها التجارية معها. وفي الوقت نفسه، بدأ تحسُّن نسبي يطرأ على الأوضاع الأمنية في جنوب غرب النيجر (منطقة الحدود المشتركة مع مالي وبوركينا فاسو)، بعدما عزّز البلدان المجاوران حضورهما العسكري والأمني في المنطقة لدعم قوات النيجر.
ويُتوقّع، بحسب تقارير إعلامية مكثّفة، أن تبادر الصين إلى أداء دور بديل للحضور الفرنسي خصوصاً، إذ تمتلك قدرات ضخمة تؤهّلها القيام بدور الشريك لدول القارة، ولا سيما تلك التي شهدت أخيراً انقلابات عسكرية، ومن بينها النيجر التي حضر وزير دفاعها "منتدى الصين - أفريقيا للسلم والأمن الثالث" (19 آب - 2 أيلول) إلى جانب ممثّلي دفاع عن 50 دولة أفريقية و"الاتحاد الأفريقي"، وهو المنتدى الذي شهد انتقادات أفريقية غير مسبوقة لمقاربات الدول الغربية لقضايا الأمن والسلم في القارة، وفي مقدّمها فرنسا. ويعزّز أيّ دور مستقبلي للصين في النيجر حضورها اللافت والقوي في مالي المجاورة وتحقيقه نجاحات مهمّة للغاية في ملفّ تعزيز القدرات الدفاعية والأمنية لنظام باماكو، وتحوّله إلى نموذج قابل للتطبيق في النيجر، وفي وقت وجيز للغاية.
وفي سياق مقارب، تبدو روسيا القوّة الدولية الأكثر تمتّعاً بتأييد شعبي في النيجر منذ ما قبل انقلاب تموز الماضي وإلى الآن، وهو ما يؤهّلها أيضاً للقيام بدور في دعم الترتيبات الأمنية والعسكرية في هذا البلد بمقبولية واضحة للغاية. وهي تطوّرات ستشهدها النيجر في الأيام المقبلة، وبالتزامن مع بدء عملية خروج القوات الفرنسية.

خلاصة
يبدو رحيل فرنسا عن النيجر هذه المرّة حاسماً وبجدول زمنيّ محدّد، وهو ما يَفرض عليها ضرورة تبنّي سياسات "أفريقية" جديدة، وإنْ كان ذلك يظلّ مستبعداً في ظلّ إدارة ماكرون. ويفيد هذا الرحيل، نظريّاً، على الأقلّ حتى الآن، الأدوار الصينية والروسية في المنطقة وتوسّعها في مساحات تراجع فرنسا بكفاءة ودينامية واضحتَين. لكن يظلّ الرحيل الفرنسي مجرّد خطوة إلى الأمام لنظام عبد الرحمن تشياني قبل مواجهة مزيد من التعقيدات والعقبات الإقليمية والداخلية، ولا سيما الملفّ الاقتصادي والترتيبات الأمنية ومواجهة تهديدات إرهابية، ربّما تتجدد بين حين وآخر لأسباب مختلفة.