يتقدّم «الحزب التقدّمي الديموقراطي الليبرالي» السلوفاكي، وفق ما أَظهرته نتائج استطلاع للرأي نُشرت أول من أمس، على» حزب الاتجاه» الذي يقوده رئيس الوزراء السابق، روبرت فيكو (18% مقابل 17.7%)، بعدما ظلّ الأخير متقدّماً نوايا التصويت بنسب تُراوِح بين ثلاث وخمس نقاط مئوية على مدى الأسابيع الماضية، مع اتّجاه البلاد إلى انتخابات عامّة ستجري بعد غدٍ الأحد. ومع ذلك، يتوقّع أغلب المراقبين فوزاً ضئيلاً لحزب فيكو - الأقرب إلى موسكو منه إلى بروكسل -، في ما يعزّز احتمالات حدوث تغييرات في السياسة الخارجية لسلوفاكيا على نحو يهدّد وحدة الاتحاد الأوروبي في مسألة دعمه لأوكرانيا، ويدعّم موقع اليمين في قلب القارّة المأزومة. وفيكو، السياسي المخضرم الذي يتبنّى خطاباً قوميّاً متطرّفاً يدعم المحافظة الاجتماعية ويناهض الهجرة، قاد البلاد لفترتَين في السلطة، وخرج منها في عام 2018، ووعد مؤيّديه هذه المرّة بمعارضة العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، ووقْف توريد المساعدات العسكرية إلى نظام كييف، والتصويت بـ»لا كبيرة» على عضوية أوكرانيا المحتملة في «الناتو». وفي حال فوز حزبه بأصوات السلوفاك، فسيتولّى تشكيل ائتلاف حاكم من الأحزاب القوميّة، تخشى بروكسل (مقرّ الاتحاد الأوروبي) أن تكون ثيمته الجامعة التقارب مع روسيا والتشكيك في الغرب، ولا سيما أن عتبة الـ5% لدخول البرلمان في مناخ سياسي مشتّت كالذي تعيشه سلوفاكيا، قد تعني أن أصوات ما يصل إلى ربع الناخبين التقدميّين لن تحصل على تمثيل.ويعكس خطاب فيكو تراجعاً ملموساً في الدعم الشعبي لأوكرانيا بين الأوروبيين، خصوصاً في وسط القارّة، لكنّه في الحالة السلوفاكية - حيث يدعم نصف الشعب تموضعاً مختلفاً عن السياق الحالي الموالي للغرب - ليس بالأمر الجديد، إذ تعود جذوره إلى بدايات تكوّن الهوية الوطنية السلوفاكية في القرن التاسع عشر، والتي ترتكز على وحدة سلافية تتّجه بأنظارها دائماً نحو روسيا. ومع أن السلوفاك اختاروا الاستقلال في عام 1993 وألقوا بأنفسهم في حضن الغرب، إلّا أن خبرة الأعوام الـ30 الماضية لم تكن مثاليّة، وتسبّبت في استقطاب شعبي حادّ بين كتلتَين متساويتَين تقريباً: إحداهما محافِظة قوميّة، أقرب ثقافيّاً إلى روسيا وتضمّ جيلاً يشعر بالتهميش منذ سقوط النظام الشيوعي في عام 1989، ولا سيما في الأرياف والبلدات الصغيرة، وتدعم نموذج دولة الرعاية الاجتماعية واستعادة كرامة كبار السن من المتقاعدين وتوفير الرعاية الصحية لهم؛ وأخرى ليبرالية متحرّرة، يغلب عليها الجيل الجديد، وتتماهى اقتصاديّاً وثقافيّاً مع الغرب، وتتموضع استراتيجيّاً في إطار «الناتو».
وتراهن بروكسل - ومن خلفها واشنطن -، في حال تحقَّق وصول ائتلاف يقوده فيكو إلى السلطة في براتيسلافا، على البراغماتية المتوقّعة من السياسيين اليمينيين لدى تولّيهم الحكم، كما هي عليه الحال في إيطاليا مثلاً، حيث يحكم فاشيون جدد تقودهم جورجيا ميلوني، التي شكّلت حكومة تبيّن في النهاية أنّها موالية للغرب ومؤيّدة لنظام كييف، حالها حال حكومة سلفها ماريو دراغي. وفي هذا الإطار تحديداً، يستشهد كثيرون بأداء فيكو في ولايتَيه السابقتين، واللتَين سعى خلالهما إلى تكريس تموضع بلاده في «قلب» الاتحاد الأوروبي، وكحليف جدير بالثقة في «الناتو»، على رغم تبنّيه خطاباً مشاكساً أحياناً، وإنْ كان مخصّصاً غالباً للاستهلاك المحلّي، علماً أن رئيس الوزراء الأسبق لم يكن معنيّاً كثيراً بالسياسة الخارجية، إذ تركّزت جهوده أساساً على الشؤون الداخلية.
حكومة ائتلافية بقيادة فيكو ليست، في أيّ حال من الأحوال، النتيجة المؤكدة لانتخابات سلوفاكيا المقبلة


على أن بعض العوامل المستحدثة في السياق الجيوسياسي الذي تجد فيه سلوفاكيا نفسها هذه الأيّام، تُبقي بروكسل في حالة ترقّب لنتيجة الانتخابات، ولسلوك حكومة فيكو، في ما لو تحقَّق انتصار القوميين. وعلى نحو متزايد، شهدت السنوات الخمس الماضية مَيْل بوصلة الرأي العام الأوروبي نحو النمط الشعبوي اليميني في السياسة، وعزّزت فرص أحزاب أقصى اليمين للوصول إلى السلطة، أو على الأقلّ قيادة المعارضة في أكثر من بلد أوروبي - بما فيها الدول الأسكندنافية وعدد من عواصم أوروبا الغربية -. وقد تمكّن فيكو من الاستثمار الذكي في هذه الأجواء لتحقيق عودة مظفّرة إلى الحياة السياسية، وهو الذي غادر السلطة مذلولاً في عام 2018، على إثر فضيحة مقتل الصحافي الاستقصائي جان كوتشياك (وخطيبته) بعد توثيقه علاقات فاسدة بين مقرّبين من فيكو ومافيا «ندرانغيتا» في كالابريا الإيطالية.
وهناك أيضاً إشارات إلى أن فيكو أقرب الآن إلى تجاوز خلافاته مع رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، حول المواقف القومية المتباينة في شأن تاريخ سلوفاكيا في الإمبراطورية المجرية، وموقع الأقلية المجرية الكبيرة في المجتمع السلوفاكي، فيما أصبحت العلاقات بينهما الآن أوثق بعدما تقصّد كلّ منهما الإعراب علناً عن احترامه للآخر، وقد ينتهي الأمر بهما إلى مساندة بعضهما داخل الاتحاد الأوروبي و»حلف شمال الأطلسي»، ولا سيما في ما يتعلّق بالموقف من الحرب الأوكرانية.
ومع ذلك، فإن المجتمع السلوفاكي الذي سبق أن أَسقط حكومة فيكو الأخيرة في عام 2018، يحشد بكثافة لدعم حظوظ «الحزب التقدمي الديموقراطي الليبرالي»، ومنع وصول «الاتجاه» إلى السلطة، ما يعني أن حكومة ائتلافية بقيادة فيكو ليست، في أيّ حال من الأحوال، النتيجة المؤكدة لانتخابات سلوفاكيا المقبلة. ولكنّ الرجل، وفي حال لم يحالفه الحظّ وجلس في كرسيّ المعارضة، سيشكّل تحدّياً كبيراً لأيّ محاولة تشكيل ائتلاف ليبرالي يحظى بثقة البرلمان. وتقود البلاد راهناً حكومة تكنوقراط ائتلافية عيّنتها الرئيسة زوزانا تشابوتوفا بداية هذا العام، وهي محامية وناشطة في المجتمع المدني عارضت حكومات فيكو وتحظى بدعم الغرب، لكنّ الخلافات الشخصيّة بين مكوّنات الائتلاف، وعجزه عن مواجهة سرطان الفساد المستشري في جسد الدولة السلوفاكية، كلّ ذلك جعل التغيير محتّماً.
ليست سلوفاكيا بلداً مفصليّاً لجهة قدرتها على التأثير مباشرةً على المجهود الحربي للحشد الأميركي وراء نظام كييف، فيما مخزوناتها المتبقّية من السلاح ليست بذات أهميّة تُذكر، ونظام العقوبات الأوروبي ضدّ روسيا مؤسّس وفاعل تصعب إعادة النظر فيه. لكنّ حكومة جديدة هناك تتألّف من ائتلاف الأحزاب القومية المؤيّدة لروسيا بقيادة فيكو، من شأنها أن تعمّق شرخاً ظهر منذ بعض الوقت في جدار الدعم الأوروبي لأوكرانيا، وسيتعيّن حينئذ على (أصدقاء) سلوفاكيا الغربيين أن يتوقّعوا علاقات أكثر صعوبة مع براتيسلافا، ومشاغبات أكثر في أروقة بروكسل حيث تُتّخذ القرارات الجديدة بالإجماع.