هل كان خالد خليفة (1964- 2023) يُدرك أنه سيغيب باكراً، وإلا ما تفسير الحمّى الحياتية التي عاشها بشغف ونهم، مؤكداً على «مهنة العيش»؟ لطالما شكا صاحب «مديح الكراهية» من الوحدة في سنواته الأخيرة. لذلك عمل على الفرار من عتمة جدران بيته المعلّق في أعلى جبل قاسيون، في ترحال من دون توقّف، سواء داخل البلاد أم خارجها، محاطاً بأصدقاء من كل الجنسيات، تسبقه رواياته إلى لغات الآخرين في وليمة حياة غير قابلة للعطب. كان (يا للأفعال الناقصة!) خالد خليفة في نسخته الأخيرة بديناً بلحية كثة، كما لو أنه همنغواي آخر، يحتشد صدره بالشبكات المعدنية التي تتيح مجرى للدم في الشرايين المتعبة لقلب الطائر الرهيف. إذ بارزه الموت أكثر من مرّة، وكان ينجو، ليروي سرديات أخرى، وليعيش ما تبقى من حياة في بلاد مظلمة، بمنهج وفلسفة وشجاعة «زوربا»، متسكعاً بين الأمكنة مثل غيمة بهجة تهطل حبّاً، فهو من النوع الذي يرقص حتى يتبلّل قميصه من العرق، قبل أن يغرق في شؤون الطهي والحب والخيبة. لكن مهلاً، هل كانت روايته «الموت عمل شاق» (هاشيت أنطوان) بروفة أولى لتشريح معنى الموت؟ ذلك أن تلك الرحلة العجائبية لدفن الأب في قرية العنابية بناءً على وصيته تبدو ضرباً من الجنون في عبور الحواجز الأمنية، وشريطاً بالأبيض والأسود في تفكيك «الملهاة السورية» بكل عنفها وعفونتها وألغامها بوصفها مقبرة جماعية. هكذا تتحوّل جثة الأب إلى عبء أو بضاعة لن تمرّ من الحواجز من دون دفع رسوم، مثلها مثل أكياس البصل. وإذا بالفانتازيا ترقى إلى أقصاها، حين يقرر حاجز عسكري اعتقال الجثة، بذريعة أن صاحبها مطلوب أمنياً، إلى أن تتحوّل الجثة إلى «جيفة لم تعد تصلح حتى للوداع». هكذا تتكرر ثيمة الموت في روايات أخرى بدلالات مختلفة، ففي «لا سكاكين في مطابخ المدينة»، نشهد جنازة الأم بالتوازي مع موت زعيم البلاد، بالاشتغال على طبقتين سرديتين: مصير العائلة، ومصير البلاد في تناوب بين عمل الهوية الصغرى والهوية الكبرى، ونكء وعورة أسئلة من هذا الطراز ما انفكت تلقي بظلالها على المشهد العمومي للسرد، من دون مراوغات بلاغية، بقصد هتك الأصوليات بكل أطيافها باعتبارها مصدراً «للقمع والعنف والاستبداد». برنامج تخييلي، سيزيح جانباً نصّه الأول «حارس الخديعة» الذي كان مزيجاً من سرديات شعرية وبصرية لمصلحة روايته «مديح الكراهية» (2006) التي وضعت اسمه في قائمة الرواة الجدد في سوريا، وخصوصاً بعد إدراجها في القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» العربية في دورتها الأولى. في الرواية، تروي الحفيدة التي تنتمي إلى أسرة تعمل في تجارة السجّاد حكاية عائلتها، وعلى وجه الدقة حكاية خالاتها في بيت الجد حيث كانت نشأتها. وفي ذلك المنزل، بغرفه المتعددة، تكتشف عالماً خصباً تصنعه خالاتها، برفقة أعمى يعمل في تحضير العطور جلبه الجد من أمام أحد الجوامع، فصار واحداً من أفراد الأسرة. الحفيدة التي ستدرس الطب في جامعة حلب مطلع الثمانينيات، ستجد نفسها في مهب العاصفة بعد انفجار الصراع بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين، ومن موقعها الأصولي وتربيتها الدينية الصارمة تنمو في داخلها بذرة الكراهية لكل الطوائف الأخرى. وبعد اعتقالها، تتعرف في السجن إلى مزيج اجتماعي لفسيفساء سوريّة شديدة الغنى، ما يضعها أمام منعطف آخر في تفكيرها: «الكراهية التي دافعت عنها كحقيقة وحيدة تكسّرت تماماً، أعادتني إلى الأسئلة الأولى حول حقيقة الانتماء، ووجودي ككائن مادي يسبح في فراغ هلامي، حياتي مجموعة استعارات من آخرين».
هكذا، ستتكشّف مصائر الخالات عن تحوّلات تراجيدية: فمريم الخالة الكبرى ستنتهي بالنوم في تابوت بدلاً من سريرها في انتظار موت أبيض، بعد سلسلة انتظارات خائبة، فيما تكسر مروة تقاليد العائلة بالهروب مع نذير المنصوري، الضابط في سرايا الموت. هذا الضابط الذي أحبّها منذ اقتحم البيت في دورية تفتيش، ووجدها في القبو تحنّط الفراشات. أما صفاء، فتوافق على الزواج من عبد الله اليمني، لينتهي بها قدرها في قندهار برفقة زوجها المجاهد في أفغانستان.
أمّا الراوية التي درست الطب في جامعة حلب، فتنتهي من جهتها في لندن طبيبة متمرنة: «وحيدة أبحث عن صور الموتى واستعارات لأتبادلها مع الآخرين كسحلية دميمة وعذراء».
ظلّت حلب بالنسبة إليه بؤرة السرد وملاذ الذاكرة ببشرها وأمكنتها وتاريخها


يقول خالد خليفة إنّ انهماكه في التفاصيل جاء من باب «فضح ثقافة الكراهية التي بُنيت عليها كل الحركات الأصولية التي نراها اليوم». في «مديح الكراهية»، تتجاور أساليب السرد وإن غلبت عليها نفحة الواقعية السحرية، لجهة غرائبية مصائر الشخصيات وسلوكياتها، وخصوصاً شخصية الأعمى الذي كان ملاذ نساء الرواية بعدما تشظّى أفراد العائلة بين السفر والموت. لكنّ وجود تلك الشخصية، أضفى مناخاً استثنائياً على فضاء الرواية لجهة الرائحة... إذ تتناوب السرد روائح كثيرة من رائحة العطر إلى رائحة البهار، ورائحة العفونة في سجن النساء ورائحة الصابون في الحمّام العمومي، وانتهاء برائحة الموت. هكذا، تتلاشى رائحة العطر تدريجاً لمصلحة هواء أسود عفن أطاح مدينة حلب ليحوّلها إلى مدينة موت. تصف الراوية تلك الأيام بقولها: «كلما ازداد رعب المدينة، ازددت يقيناً أنّ الكراهية صنعت مني امرأة صلبة غير تلك الفتاة الخجولة التي تقف في العتبة خائفة من الوحدة واليتم، شهران في صيف لا ينسى، عنفواني وصل إلى آخره بعد إعدام مجموعة من خيرة شبابنا، كما وصفهم خالي في صلاة الغائب التي أقيمت على أرواحهم».
غادر خالد خليفة مدينة حلب منذ ثلاثة عقود إلى دمشق، إلا أنها بقيت ملتصقة بجلده مثل وشم، ومثل عروس بكامل زينتها. فهي بؤرة السرد وملاذ الذاكرة ببشرها وأمكنتها وتاريخها، إلا أن هذا الألق ينطوي على نكبات متلاحقة أصابت المدينة في الصميم. وإذا بمدينة الشهباء تفيض على المشهد السوري عموماً، ففي «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» (جائزة نجيب محفوظ للرواية- 2013) يرمي حجراً آخر في المياه الراكدة لخلخلة تاريخ مدينة حلب وصدى الانقلابات العسكرية على المدينة المحاصرة، حيث لكل كائن «حصته من العار»، بحفر عميق لمفردات البطش والرغبات المجهضة، وأحوال الرماد في دورة دموية معطّلة بفعل الخوف والعنف وحطام الأرواح، وكيفية اندحار قيم الشرف، وغياب الحريات: «لست نرويجياً كي أكتب عن البحيرات، بينما جثث أهلي غارقة في الدم» يقول.
لن تكتمل صورة حلب هنا، ففي روايته الأخيرة «لم يصلِّ عليهم أحد» (2019)، يعود القهقرى إلى القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين مفتتحاً السرد بطوفان يطيح أطراف مدينة حلب بقصص متشابكة عن «الحب الموؤود، والموت المحقّق» كمحصلة لمجازر وزلازل وأمراض. سيتكفل «زكريا»، و«حنا» بمائدة الحكي واللذّة، بعيداً من اختلاف المذاهب والإثنيات، وكأن قدر هذه المدينة أن تغرق مرّة تلو مرّة بالنكبات. يختتم روايته بغرقى «ينهضون من موتهم مرحين، اصطحبوه من يده إلى ملكوتهم حيث الحياة هناك طرية والأسماك لا تموت». لكن ما أراده الراوي أن يكون ملحمياً، سيوقعه بعثرات سردية هنا وهناك لجهة اللغة التي لا تتلاءم مع تلك الحقبة بانخراط الروائي بما هو راهن أكثر من إخلاصه لتاريخ منصرم يتطلب معجماً مختلفاً، ثم عدم انتباهه إلى ضرورة التخلّص من عبء عجائبية غابرييل غارسيا ماركيز في أكثر من مفصل، وأكثر من رواية. لعل هذا الطيش السردي يأتي ترجيعاً لمفهوم العيش لدى خالد خليفة نفسه، إذ لا أسوار للحقل التخييلي والحياتي تلجم مصائر الشخصيات وتضبط هندسة السرد، فهو ينشغل بالمشهد الكلّي مراهناً على قوة فاعلية السرديات الكبرى على حساب المشهدية الداخلية لكائناته المقترحة التي تحتاج تأملاً سردياً أكثر دقّة وإقناعاً وحيوية، سواء للمتون المفتوحة على الحلم أم لجهة الضمائر المستعملة في تدوين اللحظة أو لجهة الانزلاقات المستعارة من تقنيات كتابة السيناريو التي خبرها قبلاً في حفنة من الأعمال الدرامية اللافتة. هذا العمل المتواصل على توطين مفردة الموت في أعمال صاحب «دفاتر القرباط» (2000) جعلها مفردةً مألوفة في حيثيات سرده المتوثّب: «انتظرتُ موتي مرات عديدة. استسلمت للأمر، ولم أعد أفكر كثيراً بتلك الرهبة التي يثيرها مجرد الحديث عنه، ولم أعد متطيراً. قد يكون تطوير هذه العلاقة فعلاً مريحاً بالنسبة إليّ. لكن التفكير الطويل الذي تستغرقه كتابة الموت يحول معناه إلى فعل يومي، كالأكل والشرب. ساعدتني الكتابة على تقبله، وتجميله أيضاً. ابتعدت فكرة الانتحار إلى زوايا غامضة» يقول.
في الوقت المستقطع بين كتابة رواية وأخرى، وبسبب عزلة كوفيد القسرية، لجأ خالد خليفة إلى الرسم كعمل جدّي، وقد أنجز فعلاً نحو 50 لوحة غير مكترث بسخريات الأصدقاء من هذا التحوّل في نوعية الحبر، معوّلاً على شغفه باللون، وكنوع من أنواع اللعب واختبار حقل آخر في مقاومة العزلة القاتلة، عن طريق العبث مع اللون ومحوه في حال فشل الفكرة. لن نمجّد هويته كتشكيلي، إلا أنّ محاولاته بين لوحة وأخرى تنطوي على شغب لوني، والتماعات فكرية تبدو كما لو أنها مسوّدات روائية قيد التدوين، ولكن بأداة أخرى تُحيل إلى بهجة موقتة.
على المقلب الآخر، وبعد مشاركات عديدة في برامج الكتابة التي خبرها عن كثب بين منصات عالمية مختلفة، أفسح أخيراً عن كتابه «نسر على الطاولة المجاورة: دفاتر العزلة والكتابة» (2022)، وفيه يفصح عن مفهومه للكتابة الروائية ومغامرته في السرد ليس من موقع الناصح، إنما كشهادات عن مسالك الكتابة والمزاج الآني لتدوين الفكرة بصرف النظر عن قدرتها على التأثير في تجارب الآخرين، منبهاً إلى أنّ «لا شيء يسيء إلى الكتابة التي تمتلك قوانين دفاعها عن نفسها، فالكتابة السيئة ستمضي. المشكلة أن غالبية الكتابة سيئة، والكتابة الجيدة نادرة. لكن أوهام الكتاب عن أنفسهم تجعل من الكتابة فعلاً بطبقات متعددة لا يمكن سوى للتاريخ أن يقول كلمته النهائية في أمر بقاء الكتابة الجيدة وتخليصها من الكتابة السيئة التي تذهب كالعادة إلى مكانها المعتاد، أي إلى النسيان». هكذا يوزّع خريطة الوقت إلى ورديات عمل، ونزهات تسكّع، إذ على الكاتب كما يقول أن يجلس إلى الطاولة ساعات طويلة مثل أي «عامل في مصنع» وتالياً ستبزغ لحظة الكتابة في عملية عبور من الثبات إلى الحركة، ضمن فضاء يحكمه الإيقاع، فهو يشبه النسر في انقضاضه على فريسته. يقول: «ليست حياتي السابقة سوى وقع أقدامٍ ثقيلة على بلاطٍ بارد. كلّ حياتي السابقة للكتابة ضجيج، لا أجد مبرّراً له الآن سوى أنّه كان يجب أن يُعاش. يجب أن تسير هذه الأقدام بوقعها المزعج كي تصل إلى الصمت». ويشير في مكانٍ آخر إلى أنّ «كتابة رواية بطريقة واحدة نعرفها، كتابة رواية بلغة اختبرناها، تشبه تماماً رؤية مدينة طوال يوم كامل من خلف زجاج مقهى، والاعتقاد أن هذه التفاصيل ستكرر نفسها في اليوم التالي. الزاوية نفسها، المقهى نفسه، الموظفون، الموظفات، المارة، الأرصفة، الأشجار نفسها. الكتابة بهذه الطريقة تنتج نصاً لا يستطيع الركض أكثر من خطوات قليلة، ثم لا بد من سقوطه ميتاً. احتمالات الدهشة حتى لو كانت نسبتها واحداً في المليون جديرة بالمغامرة»..
علينا الآن، أن نهضم هذا الألم بجرعات، فاختطاف خالد خليفة على هذا النحو المباغت جريمة روحية في المقام الأول، سنحتاج إلى وقت كي نتآلف مع تحمّل ثقل غيابه. ستخلو طاولته في «قهوة مظبوطة» من ضحكته العذبة، كما أنه لن يداهم أمكنة السهر في أوقاتٍ متأخرة، كما لو أنه يهرب من وحدته، لكنه هذه المرّة خذل الجميع، ولم يستيقظ من إغفاءة تشبه طعنة خنجر في الصدر المتعب.

يُوارى جثمانه اليوم الاثنين ظهراً، في مقبرة شورى في دمشق، وسيُقام مجلس عزاء عن روحه عند السادسة مساء، في صالة المحامين.