وبينما لا يعدّ استثمار «تحرير الشام» ملف المساعدات أمراً مستجداً، في ظلّ سيطرتها على إدلب ومعبر باب الهوى، تحت إشراف تركي مباشر، وما نجم عن هذه السيطرة من إحكام لقبضتها على ملف المساعدات المخصصة لإدلب (الحصة الأكبر من المساعدات المقدمة للشمال السوري)، تستبطن خطوة إنشاء مكتب خاص لتنسيق العمليات الإنسانية، استمراراً لجهود المأسسة التي بدأها الجولاني قبل نحو أربعة أعوام، وتضمنت إعادة هيكلة لقواته بإشراف تركي، وبناء هرمية واضحة لعمل حكومة «الإنقاذ» التابعة له، والتي تتحكم في معظم مفاصل الحياة في إدلب، ليُضاف تشكيل المكتب إلى هذه العمليات، ويحوّل عمل الجماعة المتطرفة من مجرّد تحكّم فصائلي إلى استثمار مؤسساتي.
الرخصة التي قدمتها دمشق محدّدة بستة أشهر فقط، ما يفتح الباب أمام صدامات سياسية جديدة قد تشهدها أروقة الأمم المتحدة
وفي السياق، تشير مصادر «جهادية»، تحدثت إلى «الأخبار»، إلى أن الجولاني تمكّن في السنوات الماضية من بناء علاقات مع قوى مختلفة، أبرزها الولايات المتحدة وفرنسا، إلى جانب علاقته المتينة بتركيا، عن طريق استثمار ملف «الجهاديين» غير السوريين، ومكافحة تنظيم «داعش».إذ قدّم الجولاني إلى واشنطن وحلفائها معلومات دقيقة مكّنتهم من تنفيذ عمليات ضدّ قياديي عدد من الجماعات، سواء زعماء من «داعش» أو قياديين في «القاعدة»، أبرزهم كوادر جماعة «خراسان» الذين تعرضوا لعملية إبادة عن طريق شن غارات دقيقة بعد تحديد مواقعهم في إدلب.
وإلى جانب العلاقات التي بناها رجل «القاعدة» السابق، ترى المصادر أن الجولاني، وعن طريق حكومته، يسعى إلى تحويل هذه العلاقات من مجرد صلات أمنية واستخباراتية إلى شبكة أوسع، تتضمن الجانبين السياسي والاقتصادي، وحتى الإنساني، مستفيداً في هذا السياق من تجربة «طالبان» التي عبّر مراراً عن إعجابه بها. ولعلّ ذلك يفسّر رفضه تمرير مساعدات أرسلتها دمشق إلى منكوبي زلزال شباط الماضي في الشمال، وإصراره على إدخالها عبر تركيا، لمنع إعادة فتح المعابر الداخلية من جهة، ومحاولة ترسيخ نفوذه على أنه «كيان مستقل» في الشمال الغربي من سوريا من جهة أخرى، وهي خطوة أدّت إلى تضرر آلاف السوريين الذين مُنعت عنهم المساعدات حينها، قبل أن تقدم دمشق رخصة وسّعت عبرها إدخال المعونة عبر الحدود لإنقاذ المتضررين.
وفي وقت يشتكي فيه مئات آلاف السوريين المحشورين في مخيمات قرب الحدود مع تركيا من عدم كفاية المساعدات التي تصلهم، أو انقطاعها لفترات زمنية طويلة في بعض الأحيان، تؤكد المصادر أن «قسماً كبيراً من المساعدات التي جرى إدخالها سابقاً، تم بيعها في أسواق موازية لمصلحة «هيئة تحرير الشام»، كما تم استخدامها في أوقات كثيرة كوسائل ضغط في يد «الهيئة»». وهي ثغرات حاولت دمشق عبر نقاشات عدة في أروقة مجلس الأمن تجنبها، عبر إيجاد آليات أكثر شفافية لإدخال المساعدات، لكنّها لم تلقَ طريقاً واضحاً لتطبيقها، في ظلّ حالة العجز التي تظهرها الأمم المتحدة من جهة، والتحكم المطلق للجماعة «الجهادية» في إدلب من جهة أخرى.
ومهّد ما تقدّم كلّه الطريق أمام الجولاني للاستمرار في استثمار ملف المساعدات، في ظلّ رضى عدد من الأطراف الدولية، على رأسها الولايات المتحدة التي عرقلت قرارات عدة تفسح المجال لتعديل آليات إدخال الإغاثة. وبالنظر إلى أن الرخصة التي قدمتها دمشق محدّدة بستة أشهر فقط، وما لم تتغير الظروف الميدانية، فمن المتوقع أن ينفتح الباب أمام صدامات سياسية جديدة في هذا الخصوص، قد تشهدها أروقة الأمم المتحدة.