لم تشفع المواقف الحادّة التي أطلقها المبعوث الأميركي الخاص السابق لإيران، روبرت مالي، حيال هذا البلد بعد موجة الاحتجاجات التي شهدها في أواخر السنة الماضية، له، لدى أوساط اليمين الجمهوري واللوبيَين الإسرائيلي والسعودي في الولايات المتحدة. الرجل الذي «جُمّد» عن أداء وظيفته وفقاً للتعبير الرسمي، ولكنه في الواقع أُقصيَ من منصبه، منذ بداية شهر تموز الماضي، لـ«سوء استخدامه لمعلومات سرية»، يواجه اليوم حملة منظّمة من الأوساط المذكورة تتّهمه بالإشراف على عملية اختراق للمؤسسات الأميركية من مجموعة من الخبراء الذين يعملون لحساب طهران. وقبل الخوض في تفاصيل التهم الموجَّهة إلى مالي و«فريقه»، لا بدّ من التوقّف عند هوية الجهات الإعلامية التي أثارت الموضوع، وهي أساساً موقع «سيمافور» المعروف بميوله الصهيونية المتشدّدة، وقناة «إيران إنترناشيونال» الفضائية، المعارِضة للحكم في إيران والمُموّلة سعودياً وإماراتياً وإسرائيلياً، والتي حصلت على الرسائل المسرَّبة، وتُرجِم بعضها من الفارسية، قبل أن تقوم جهات إعلامية عديدة أخرى، صهيونية متشدّدة كموقع «تابليت»، بمشاركتها والانخراط في هذه الحملة. الصحافي الذي أعدّ تقرير «سيمافور»، جاي سالومون، اشتُهر منذ سنوات طويلة بعدائه الشديد لإيران، ورفضه لأي اتفاق معها، وذلك عندما كان يعمل في «وول ستريت جورنال»، قبل أن تفصله الأخيرة لـ«سلوكات لا تنسجم وأخلاق المهنة»، بعد أن كشفت رسائل إلكترونية مسرّبة تفاوضه مع أحد مصادره على صفقات مالية. هوية الجهات التي أطلقت الحملة، والتوقيت الواحد لنشر المقال في «سيمافور» والترويج له في «إيران إنترناشيونال»، مصدر الرسائل المسربة، والتبنّي الواسع الذي حظي به من قيادات سياسية في الحزب الجمهوري، كعضو مجلس الشيوخ، تيد كروز، الذي طالب بتحقيق شامل حول «عملية اختراق إيرانية واسعة تصل إلى أعلى هرم الإدارة الحالية»، ومن أطراف سياسية وإعلامية أخرى، هي جميعها معطيات تثبت بما لا يدَع مجالاً للشكّ بأننا أمام عملية إعلامية - سياسية منسّقة تندرج في سياق إستراتيجية تأجيج العداء لطهران، المُعتمَدة لدى اليمين الجمهوري وحلفائه الداخليين والخارجيين لتحقيق جملة من الغايات الانتخابية والسياسية.
من بين أبرز الشخصيات المتّهمة بالمشاركة في هذه العملية، أريان طبطبائي، وهي باحثة أميركية من أصول إيرانية، وتعمل حالياً في البنتاغون كرئيسة الفريق المساعد لوزير الدفاع الأميركي للعمليات الخاصة، ودينا أسفندياري، وهي أيضاً باحثة أميركية من أصول إيرانية، ومستشارة رئيسة في «مجموعة الأزمات الدولية»، وعلي واعظ، مدير برنامج إيران في المجموعة نفسها والمستشار الرئيسي لرئيسها. تستند الاتهامات إلى مجموعة من الرسائل الإلكترونية المتبادلة بين الباحثين المذكورين ومسؤولين إيرانيين من فريق الرئيس الإيراني السابق، حسن روحاني، في 2014، أي في مرحلة التفاوض بين طهران ومجموعة «5+1» على الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني. نُظمت في تلك المدة «مبادرة الخبراء حول إيران»، وهي مجموعة تضمّ 10 خبراء، بعضهم من أصول إيرانية، هدفها الدفاع عن خيار التوصل إلى اتفاق حول برنامج إيران النووي عبر المفاوضات، في مقابل الهجوم المسعور الذي قوبِل به مثل هذا الخيار من طرف اللوبيَين الإسرائيلي والخليجي، ومن طرف اليمين الجمهوري في الولايات المتحدة. تمحوَر تركيز معدّي تقرير «إيران إنترناشيونال» و«سيمافور» على المراسلات بين طبطبائي وإسفندياري وبين الديبلوماسي الإيراني الموجود في برلين آنذاك، سعيد خطيب زاده، ومدير مركز دراسات الخارجية الإيرانية في تلك المدة، مصطفى زهراني.
إثارة تهمة من نوع اختراق إيران لإدارة بايدن، سيوظّفها خصوم الإدارة الجمهوريون في المعركة الانتخابية


ما يتّضح عند مراجعة هذه المراسلات هو أن طرفيها حَرصا على التواصل المستمر، المباشر أو عبر الرسائل الإلكترونية، للتنسيق حول كيفية تظهير حقيقة موقف إيران، وحرصها على التوصل إلى اتفاق ملزم لجميع أطرافه. لم يكُن خافياً على الجهات الرسمية الإيرانية، ولا على الخبراء المشار إليهم، أن التواصل عبر البريد الإلكتروني، ومن دون أيّ تشفير أو على الأقل اعتماد الإيحاء بدلاً من الكلام الواضح المعنى، سيُسهّل قدرة الأجهزة الأمنية المختلفة على الاطّلاع على مضمونه. لكنهم لم يحاولوا إخفاء مضمون تواصلهم، ولا قيام السلطات الإيرانية بتسهيل حصول الخبراء على تأشيرات وتحمّل نفقة دعوتهم إلى طهران للحوار والتنسيق. وقد أشارت «مجموعة الأزمات الدولية»، عند استفسار جاي سالومون عن خلفيات «مبادرة الخبراء حول إيران»، إلى أن جهات أوروبية هي التي موّلتها علناً. يأخذ سالومون، ومن خلفه «إيران إنترناشيونال» على الجهات المؤيّدة للاتفاق النووي، أكانت إيرانية أم أميركية أم أوروبية، سعيها للقيام بحملة رأي عام تأييداً لهذا الاتفاق، وللتصدّي للحملات الهوجاء المضادة له، والتي قادتها جهات إسرائيلية وأميركية وخليجية، وجنّدت في إطارها مراكز دراسات وخبراء ووسائل إعلام ومسؤولين سياسيين وأنفقت عليها مبالغ طائلة. لكن لا يوجد في الرسائل التي جرى الكشف عنها أيّ أثر للتخابر، بل مجرّد حوار وتشاور حول أفضل السبل لإقناع الرأي العام بوجاهة الموقف الداعي إلى حلّ تفاوضي مع إيران.
لا يلتفت قادة الحملة الحالية إلى التغير الذي طرأ على مواقف الخبراء، وتحديداً أريان طبطبائي وعلي واعظ، وكذلك مواقف روبرت مالي، من إيران بعد موجة الاحتجاجات التي شهدتها، وتشدّدهم المفرط حيالها، وتلويح الأخير في أكثر من مناسبة بوجود خيار عسكري ضدّها في حال قرّرت إنتاج سلاح نووي. يتغاضى أيضاً عن أن طبطبائي عملت قبل انضمامها إلى البنتاغون أخيراً كخبيرة مدنية، في مؤسسة «راند»، وشاركت في إعداد مجموعة دراسات حول صراع القوى العظمى، تتضمّن توجهات معادية لطهران بفعل «دعمها لروسيا في الحرب في أوكرانيا»، وفق زعمها. الواقع هو أن هذا التغير في المواقف لا يُلتفت إليه من الائتلاف المعادي لإيران في الولايات المتحدة، لأن هذا الأخير يريد ببساطة تطهير المؤسسات الأميركية من أنصار التفاوض معها، واستبدالهم بصقور يروْنَ في خيارات التصعيد ضدّها، بما في ذلك تلك العسكرية، الحلّ الأنسب لحسم الخلافات معها. وبطبيعة الحال، فإن إثارة تهمة من نوع اختراق إيران لإدارة بايدن، وما سينجم عنها من تحقيقات قضائية وأمنية وسجالات في الكونغرس ومجلس الشيوخ، سيوظّفها خصوم الإدارة الجمهوريون في المعركة الانتخابية التي ستبدأ قريباً جداً.