القدس | «سيصل الجنود العرب إلى السجن الليلة أو غداً، ويفتحون الأبواب ويخرجونكن من السجن، وربّما يضعوننا نحن مكانكنّ، وتحملن المفاتيح بدلاً منّا. لي طلب واحد منكنّ: أن تُعامِلننا مثل معاملتنا إيّاكُنّ. أنا لا أذكر أنّني أسأت إلى أيٍّ منكن». بهذه الكلمات، خاطبت السجّانة الإسرائيلية ذات الأصول العربية، جينا، وهي مصرية الأصل والمولد والنشأة، الأسيرات الفلسطينيات من أمام بوابة قسمهن في سجن «الرملة»، مفصحةً، في مشهد سوريالي، عن خوفها من هزيمة حكومتها في «حرب أكتوبر» عام 1973. تقول عائشة عودة، وهي أسيرة محرّرة اعتُقلت لمدّة عشر سنوات (1969-1979)، وعايشت «حرب أكتوبر» داخل السجن: «في تمام الساعة الواحدة ظهراً، سمعنا صوت آليات ثقيلة تمرّ من الشارع القريب. وبعد قليل، ظَهرت السجانة وطلبت من الجميع العودة إلى الغرف. وعند وصولها بابَ غرفتنا، طفح الكيل لديها من الأسئلة التي سمعتها من كلّ غرفة. قالت بعصبية وهي تسحب باب غرفتنا: في حرب عشان عايشة تفرح!». حينها، خاطبت عائشة نفسها، قائلة: «أمِن الممكن؟ حربٌ ونحن داخل السجن؟ ما الذي يحصل في هذه الحرب؟ وعلى أيّ الجبهات؟ ومن البادئ؟ وما النتائج؟». وأضافت، واصفةً الحالة التي عايشتها الأسيرات آنذاك: «صرنا نتحرّق لمعرفة ما يجري، وكان لدينا مذياع صغير، علمنا عبره أنه قد تمّ اجتياز "خطّ بارليف" من على قناة السويس، ورفْع العلم المصري عليها، وتمّ دخول هضبة الجولان من جهة سوريا ورفع العلم السوري في القنيطرة. لقد نجح العرب في مفاجأة إسرائيل، وتهاوت التحصينات التي ظنّوا أنها عصيّة ومنيعة». وعن أثر خبر الحرب على أجساد الأسيرات وأذهانهن في حينه، تصف عودة المشهد في كتابها، «ثمناً للشمس»: «أطلّت الفرحة من عيوننا. فجأةً، أصبحت قاماتنا مشدودة وخطْونا صار خفيفاً. كانت الهزيمة أغلالاً تشدّنا إلى الأرض، وأثقالاً نحملها على أكتافنا، وصخرة تثقل على صدورنا. وها نحن بلمحة عين، نتحرّر منها ونَخِف كالفراش».يحضر هذا المشهد، تلقائياً، إلى الأذهان لدى قراءة حدث السابع من أكتوبر 2023، عندما تبدّلت كل المعادلات التي تحكم المشهد العام في السجون، ووصلت أخبار العبور الكبير الذي نفّذه مقاومو «كتائب القسام» إلى مستوطنات «غلاف غزة» إلى آذان الأسيرات، فانتفضت قلوبهنّ، وارتعشت أجسادهنّ، وأُصبن بحالة ذهول وصدمة. في تلك اللحظة بالذات، تولّد أفق جديد أمام أعينهنّ، وبات مشهد الحرية أقرب من أيّ وقتٍ مضى. تقول والدة الأسيرة مرح بكير، المعزولة في سجن «الجلمة» منذ السابع من أكتوبر، واصفةً ما حدث في ذلك اليوم: «مع بداية سماع أخبار طوفان الأقصى، ومعرفة الأسيرات تفاصيل العملية، بدأن بالتكبير وبالخبط على الأبواب، فقامت إدارة السجن باقتحام القسم ورشّ الغاز ومدّ خراطيم المياه، وهدّدت بسحب البلاطات (التي تستخدمها الأسيرات للطبخ). وفي تلك اللحظة، تمّ سحب مرح من القسم». مرَّ أربعون يوماً، ولا تزال مرح بكير، الفتاة المقدسيّة التي اعتقلها الاحتلال من القدس المحتلّة، عندما كانت تبلغ من العمر 16 عاماً وترتدي الزي المدرسيّ، وأصابها حينها بإصابة بليغة في يدها اليسرى لا تزال تُعاني آثارها إلى اليوم، قيد الاحتجاز. وكان جرى عزل مرح، التي أصبحت هي نفسها مسؤولة الأسيرات وخطّ الدفاع الأول عنهن أمام إدارة سجن «الدامون»، في زنزانة ضيّقة وعفنة، مليئة بكاميرات المراقبة من الاتجاهات كافة، لا يدخلها الضوء، ولا تتوافر فيها أيّ مقومات للحياة الآدمية، فيما «لم تتمكّن مرح من تغيير ملابسها منذ يوم نقلها إليها، كما أن الأغطية فيها خفيفة ومتّسخة ولا تقي البرد».
وصلت أخبار العبور الكبير لمقاومي «القسام» إلى مستوطنات «غلاف غزة»، إلى آذان الأسيرات، فانتفضت قلوبهنّ، وارتعشت أجسادهنّ، وأُصبن بحالة ذهول وصدمة


هكذا، تواجه الأسيرات الفلسطينيات، منذ بدء المعركة، تصعيداً غير مسبوق، وفق ما تفيد به الشهادات الواصلة من طريق المحامين ومؤسّسات الأسرى، وأبرزها «نادي الأسير الفلسطيني» و«هيئة الأسرى والمحررين»، والتي تعود بالأذهان إلى السنوات الأولى للاعتقال، أي إلى أوائل السبعينيات. إذ عاد التعذيب الجسدي إلى الواجهة، وسيطرت التهديدات بالاغتصاب والضرب والتفتيش العاري على أداء المحقّقين العسكريين، فيما حُرمت الأسيرات من الكانتينا، ومن الفورة (الخروج إلى ساحة السجن)، وتمّ قطع المياه والكهرباء والاتصال والتواصل عبر الهاتف العمومي عنهن، ومُنعن من الزيارات أو لقاء المحامين، وتعرّضن لاقتحامات وضرب وتنكيل ورش الغاز داخل الغرف. كذلك، سُجِّل ارتفاع ملحوظ في وتيرة الاعتقالات في صفوف النساء، إذ وصل العدد، حتى الآن، إلى 77 أسيرة من مختلف مناطق فلسطين المحتلّة. ويأتي هذا في ظلّ تحوّل إدارة السجون إلى سيطرة الجيش بالشراكة مع مصلحة السجون (الشاباص)، على إثر حالة الحرب التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية على الفلسطينيين، والمتمخّض عنها اعتمادها قوانين الطوارئ لعام 1945 الخاصة بالانتداب البريطاني، ما يعطيها هامش حرّية أوسع لقوننة أدوات الموت والاعتقال بأشكالها كافة.
وإلى جانب الأسيرات الراشدات، تأتي الأسيرات الأطفال، ومن بينهن الطفلة المقدسية، نفوذ حمّاد، التي تبلغ من العمر 16 عاماً، وقد اعتقلها الاحتلال عام 2021 بحجّة تنفيذها عملية طعن في حي الشيخ جراح في القدس المحتلّة، وتُعدّ الأصغر عمراً بين الأسيرات في سجن «الدامون». هناك، تمثّل ضحكاتها وطفولتها المليئة بالحياة سرّ النجاة بالنسبة إلى الأسيرات، اللواتي تنادي إحداهن «ماما». عُرف عن نفوذ قيامها بصنع الدمى من المكونات البسيطة الموجودة في كانتينا السجن، مثل البطاطا والباذنجان، فيما كتبت عنها الأسيرة المحرّرة، ياسمين جابر، واصفةً استثنائيتها: «نفوذ حماد أو زي ما بسموها الأسيرات (نانا) هي روح القسم وضحكته، وهي الأسيرة الوحيدة اللي فكّرت تزرع السجن ولو على ورق وقطن، وبترسم بالصابونة على الأرض وبتجبر الكلّ يلعب حجلة، وبتجمع كل فراشة بتشوفها بساحة السجن بدفتر ذكرياتها الخاص». وأصدرت محكمة الاحتلال، أخيراً، بعد مماطلة استمرّت لعامين، الحكم النهائي بحقّ حماد، والقاضي بسجنها 12 عاماً، ودفعها غرامة مالية بقيمة 50 ألف شيكل (نحو 13 ألف دولار)، وسجن مع وقف التنفيذ لمدّة 3 سنوات. وفي هذا السياق، يقول والدها، جاد حماد، إن «العائلة لم تكن تتوقّع قرار المحكمة بسجن ابنته 12 عاماً»، معتبراً القرار «انتقاماً من أبناء شعبنا في ظلّ الظروف التي يمرّ بها حالياً».
أمّا من بين الأسيرات الأمّهات والمريضات، فتَبرز الأسيرة المقدسيّة والأمّ لولد وحيد هو معتصم، إسراء جعابيص (36 عاماً)، المعتقلة منذ 11 تشرين الأول 2015، والتي حُكم عليها بالسجن الفعلي مدّة 11 عاماً بتهمة أُلصقت بها، وذلك حين انفجرت أسطوانة غاز كانت تحملها في سيارتها بالقرب من حاجز عسكري، نتيجة إطلاق قوات الاحتلال النار عليها بذريعة اقترابها من الحاجز ومحاولتها تنفيذ عملية دهس. وعلى إثر هذا الحادث، أصيبت إسراء بحروق من الدرجات الأولى والثانية والثالثة، أتت على أكثر من 60% من جسدها ووجهها، وهو ما أفقدها عدداً من أصابع يديها وأصابها بتشوهات كبيرة تسبّبت بتغيير ملامحها كليّاً، وهي بحاجة إلى رعاية صحية ومزيد من العمليات الجراحية، في ما تتفاقم معاناتها في ظلّ استمرار سياسة الإهمال الطبي المتعمّد. تقول الأسيرة المحرّرة، خالدة جرار، في وصفها لشخصية إسراء، وارتباطها الدائم بأخبار صفقات التبادل: «الحديث عن إسراء ليس سهلاً، لأن إسراء شخصية فريدة، مزيج من القوّة والصلابة الظاهرة، وأحياناً تفيض بالحنان والإنسانية. وهي عادةً تمرّ بمراحل تشعر فيها باليأس، وعندما يأتي أيّ خبر يتعلّق بإمكانية حدوث صفقة تبادل، عندها تأتي مباشرة إليّ قائلةً: إم يافا، حلّلي... فأقول لها إن التحليل صعب وبحاجة إلى معطيات أكثر ممّا يأتينا ونستطيع الوصول إليه». ومن جهتها، عبّرت شقيقة إسراء، منى جعابيص، عن قلقها الدائم على شقيقتها نتيجة حالة الانقطاع الكامل عن الاتصال معها منذ بدء الحرب، قائلةً :«آخر مرّة تحدّثنا مع إسراء كانت بتاريخ الرابع من حزيران، ثم انقطعت الاتصالات تماماً. إحنا قلقانين، خايفين عليها، وخايفين على خواتها اللي بالسجن، لأنو مش عارفين عنهم أيّ خبر. لا يوجد كلام نقوله، خلص الكلام من هول ما نرى، وتحديداً في ظلّ الخذلان الذي نعيشه، لم نَعُد نعرف على مين نخاف وعلى مين نقلق».