يشبه البحث في الجرائم البيئية، التي ترتقي إلى حدّ «إبادة الغابات» شمالاً، البحث في وِكر دبابير، بحسب توصيف المتابعين، مع تحوّل مصلحة الزراعة في محافظة الشمال إلى شرطي يسطّر محاضر ضبط بعد موت «الضحية».آخر هذه الجرائم اقتلاع أشجار سنديان معمرة في خراج وادي قاديشا. ففي 27 الجاري، أوقفت وزارة الزراعة رخصة كانت قد منحتها لرئيس دير مار أنطونيوس قزحيا في وادي قاديشا الأب كميل كيروز لتشحيل ٤٣٠ شجرة سنديان في العقار الرقم 152، في محيط الدير، «لمخالفة شروطها، وجرى تسطير محضر ضبط بحق المخالفين وإحالتهم إلى القضاء المختص».
تحرك الوزارة جاء بعدما أثارت جمعية «الأرض - لبنان» نقل جرافات وشاحنات جذوع سنديان معمرة لشق طريق ومحو دروب أثرية قديمة من دون دراسة تقييم الأثر البيئي، علماً أن وادي قاديشا، عدا عن تصنيفه موقعاً طبيعياً خاضعاً لحماية وزارة البيئة التي تحدد شروط الترخيص لأي إنشاءات فيه، مدرج على لائحة التراث العالمي كونه من أهمّ المواقع للتأسيس المسيحي في العالم، ويضم أديرة قديمة وآثار غابة أرز لبنان الكبيرة.
وكانت جمعية «الأرض - لبنان» قد تقدمت هذا الشهر أيضاً بشكوى لدى وزارة البيئة بسبب اقتلاع شجر زيتون معمّر وشق طريق لإنشاء مدينة صناعيّة على أرض تابعة لدير سيدة النجاة للرهبانية اللبنانية المارونية في بصرما (الكورة)، من قبل جمعية Work Smart Association، من دون إعداد دراسة الأثر البيئي. في مخالفة للمرسوم الرقم 8633 حول أصول تقييم الأثر البيئي. وعليه، «طلبنا من إدارة المشروع التقدم بتصنيفه لإجراء دراسة تقييم الأثر البيئي»، بحسب وزير البيئة ناصر ياسين، نافياً ما أُشيع عن تدخلات سياسية منعت وقف الأشغال في انتظار إعداد الدراسة الملزمة. وأوضح لـ«الأخبار» أنه «تم نقل أشجار زيتون، وبعدما تحقق المدعي العام البيئي من الأمر لم تظهر أي مخالفة».
وصول أخطبوط التشويه إلى «الوادي المقدس» وحرج «أرز الرب» أدى إلى انتشار صور الانتهاكات، وشكّل فرصة للاستثمار السياسي ولنائبة حزب القوات اللبنانية ستريدا جعجع التي «أفجعتها المجزرة البيئية» لـ«تعلّم» على تيار المردة. الأمر نفسه حصل في بصرما أيضاً، بحسب النائب العام في الرهبانية اللبنانية المارونية الأب جورج حبيقة، الذي عزا «الهجوم على المشروع الصناعي الهادف إلى خلق فرص عمل للشباب في الكورة إلى رغبة جهة سياسية في شن حملة ضد صاحبه رئيس تيار المردة طوني فرنجية. ولا تفسير آخر للأمر، لأننا لم نسمح بقطع الأشجار، وأشجار الزيتون التي اقتلعناها ننوي إعادة زرعها في جهة أخرى من العقار».
تزداد محاضر الضبط بحق رؤساء أديرة استغلّوا رخص التشحيل للقطع العشوائي وتنفيذ مشاريع من دون دراسة أثر بيئي


ويستغرب بيئيون ازدياد محاضر الضبط بحق رؤساء أديرة استغلوا رخص تشحيل أشجار للقطع العشوائي وتنفيذ مشاريع من دون دراسة أثر بيئي. ويلفت هؤلاء إلى أنه قبل عام، في 24 تشرين الثاني، ضُبطت مخالفة في غابة الأرز في خراج منطقة حدث الجبة التابعة للبطريركية المارونية التي استحصلت على ترخيص لرفع أغصان الأرز اليابسة عن الأرض، ليتبين بعد الكشف قطع 150 شجرة أرز يابسة، و15 شجرة خضراء، وتشحيل عدد آخر لشق طريق والحصول على 800 كلغ من الحطب بدلاً من 20.40 كلغ المسموح بها في الرخصة. ورغم أن العقار الذي يُسطّر فيه محضر ضبط لا يمكن إعادة العمل فيه قبل 5 سنوات، ولا يُمنح المخالف لشروط الترخيص ترخيصاً آخر قبل مرور ثلاث سنوات، عاودت البطريركية، بعد أسبوعين من تسطير المحضر، طلب رخصة تشحيل أشجار بداعي استثمار وصيانة ورفع أضرار في العقار نفسه.
حبيقة، من جهته، رأى أن هناك «تضخيماً إعلامياً يهدف إلى تشويه صورة المؤسسة الدينية»، فكيف حصلت المخالفات؟ يجيب: «أخذنا الإذن لتنفيذ المشاريع من البلدية، فيما المطلوب أخذه من وزارة البيئة، وهذا ما لم نكن نعلم به ولم تبلغنا البلدية به. والهدف من هذه المشاريع إنشاء شبكة طرقات في الغابات والأحراج لفتح الطريق أمام سيارات الدفاع المدني لإطفاء الحرائق التي قد تندلع. بالطبع، تقع خسائر نتكبدها لدى تنفيذ المشاريع وسنعوّض الخسارة في الغطاء النباتي بزرع أشجار بديلة».



85% النقص في مأموري الأحراج
مع تزايد التعدّيات على الغابات في منطقة الشمال، عمّم محافظ لبنان الشمالي القاضي رمزي نهرا على مصلحة الزراعة في المحافظة، أواخر أيلول الماضي، «التشدد في حماية الثروة الحرجية ومنع القطع والتشحيل العشوائي، والطلب من مأموري الأحراج وحراسها تفعيل دوريات الكشف وعدم التهاون مع المخالفات، والطلب من البلديات تكليف الشرطة البلدية ونواطير الأحراج القيام بدوريات مكثفة لضبط المخالفات». غير أن تنفيذ هذا التعميم دونه تعقيدات كثيرة، ليس أقلها أن النقص في عدد مأموري الأحراج وحراسها في المراكز السبعة التابعة لمصلحة الزراعة في الشمال يتعدّى 85%، بسبب تقاعد البعض واعتكاف آخرين وعدم سدّ الفراغات، فضلاً عن عدم قدرة البعض على الحضور بسبب سكنهم بعيداً عن المركز. وتلفت مصادر الى أنه في مركز البترون، مثلاً، «هناك آلية واحدة غير صالحة للسير، وليست هناك اعتمادات لصيانتها أو محروقات لتشغيلها، لذلك غالباً ما يذهب الحارس للكشف برفقة حامل الرخصة في سيارة الأخير، ما يؤثر على شفافية التقرير الذي يضعه».
وتشير مصادر في وزارة الزراعة إلى أن النقص في عدد حرّاس ومأموري الأحراج ينسحب على أقضية بأكملها، «وهذه مشكلة عمرها سنوات، ولم تجد طريقها الى الحل بسبب عدم تعيين عدد من حراس الأحراج المقبولين في امتحانات الخدمة المدنية بحجة انعدام التوازن الطائفي».