غزة | بعد ما يزيد على أسبوعين من بدء التوغّل البري المتزامن مع القصف المدفعي والجوّي في هذه المنطقة، انسحبت قوات الاحتلال، فجر الجمعة الماضي، من حيّ تل الزعتر الذي يحدّ مخيم جباليا من الجهة الشرقية. مع ساعات شروق الشمس الأولى، شعر نحو مائتين من أفراد الطاقم الطبّي والجرحى ومرافقيهم الذين حوصروا في مستشفى العودة في تلك المدّة، بأن ثمّة ما هو مختلف في هذا الصباح. إذ لم يسمعوا هدير الدبابات والجرافات، ولا صليات الرصاص المتواصل، ولا جلجلة تدمير المزيد من المباني والمنازل، ولا حتى صرخات جنود جيش العدو الجرحى، والتي تتعالى بالتزامن مع تكبيرات المقاومين. فقط، أَودع القناصة، في ساعات السحر، رصاصة في صدر عاملة من عائلة أبو النصر وأردوها قتيلة، لتُدفن إلى جانب ثلاثة من أفراد الطاقم الطبي قضوا بالطريقة نفسها، في قبو المستشفى، ثمّ انتهى كلّ شيء.في تمام التاسعة صباحاً، شقّ الأهالي طريقهم من بين العشرات من جثامين الشهداء المتحلّلة في شوارع الحيّ والأبنية المدمّرة، إلى حيث كانت منازلهم. أمّا أنا، فقد سابقتُ الغبار بعين «الأخبار» التي تحاول رصد ما استطاعت من المشهد المهول، وقلب الأخ الملتاع للاطمئنان على أخيه. لقد حوصر أخي، الدكتور حمزة، مع المحاصَرين، وفقدنا الاتصال به منذ أسبوعين. دعونا الله، مع دويّ كلّ رصاصة وقذيفة، ألّا تكون من نصيبه. ها قد وصلنا أخيراً، سألنا الأطباء والممرّضين عن حمزة، فأجابوا: «هو بخير لكنه ليس في المستشفى». قاطعناهم: «هل اعتقلوه رفقة مَن اعتقلوا؟»، ليجيب زميله ناجي: «لا تخف يا رجل، حمزة بخير، بتلاقيه عند بيت أهلك المهدوم في الشارع العلوي... راح يطمئن على جاركم عبد القادر أحمد... بصراحة أخذ كونتات وراح يصلّي عليه ويدفنه».
يعطيك حيّ تل الزعتر انطباعاً عن السلوك العسكري الإسرائيلي الذي يصاحب عمليات التوغّل


إلى حيث منزل العائلة والجيران والذكريات مضينا. كلّ شيء تغيّر. سيَسهل عليك أن تحصي ما تبقّى قائماً من المنازل، على أن تعدّ ما تمّ تدميره. المنزل الذي نجا من النسف والقصف، أحرقه الجنود قبل انسحابهم. على باب البيت، أو ما تبقّى منه، كان حمزة يجمع ما تبقّى من حشائش الأرض ويُطعم حمار جارنا المحاصَر بالركام. رأيته وقد نحل جسده واصفرّ وجهه. وحدها الابتسامة هي التي أنستنا كلّ هول. صافحناه، عانقناه، قبّلناه، بقدرِ ما في الجسد من طاقة، ثمّ شرعنا في رحلة البحث عن الجار الشهيد. لقد غيّرت جرّافة الـ«دي ناين» معالم الحارة، جارفةً الإسفلت والركام وأعمدة المنازل وسيارات الأهالي. وفي أسفل كلّ تلك الكَومة، تبدّى شيء من جسده. جمعنا أشتاته، ثمّ بغطاء سرير حمزة الذي لم يمضِ على زواجه ثلاثة أشهر، كفّناه، وصلّينا عليه، وفي فسحة من التراب واريناه الثرى.
يعطيك حيّ تل الزعتر انطباعاً عن السلوك العسكري الإسرائيلي الذي يصاحب عمليات التوغّل في وسط الأحياء المكتظّة بالعمران. تقصف المدفعية كلّ المنازل، فيما تطلق طائرات «الكواد كابتر»، طوال الوقت، الرصاص على كلّ من يتحرّك. أطنان من فوارغ الرصاص ملقاة على الأرض، والمئات من الكلاب والقطط النافقة في كلّ مكان. المنازل التي بقيت قائمة على أعمدتها، لا تصلح للسكن أيضاً؛ إذ دُكّت بالمدفعية وأُلقيت في داخلها قنابل حارقة. ثمّة علاقة ثأرية كذلك بين جنود العدو ومناهل الصرف الصحي، والتي لم يتركوا واحدة منها من دون أن يحفروها ليطمئنوا إلى أنها ليست فتحة نفق.
أبو أحمد هو واحد من الأهالي الذين لم يغادروا الحيّ طوال مدّة الاجتياح. تفاجأ عندما خرج من المنزل شاحب الوجه، هزيل الجسد، مرتعد الأطراف، بوجودنا. سألَنا في بادئ الأمر: «انسحبوا؟». لقد عاش الرجل الخمسيني خمسة عشر يوماً تحت درج منزله السفلي من دون أن يتحرّك من مكانه. غذاؤه قليل من الماء والتمر. وبعد أن تنفّس اليوم الصعداء، أردف مستفسراً: «كانت تصلكم أخبار عن اشتباكات الشباب مع الجيش... طوال مدّة التوغل وأنا أسمع صراخهم وعويلهم مع تكبيرات المقاومين... أكلوها هان منيح».