يعطيك حيّ تل الزعتر انطباعاً عن السلوك العسكري الإسرائيلي الذي يصاحب عمليات التوغّل
إلى حيث منزل العائلة والجيران والذكريات مضينا. كلّ شيء تغيّر. سيَسهل عليك أن تحصي ما تبقّى قائماً من المنازل، على أن تعدّ ما تمّ تدميره. المنزل الذي نجا من النسف والقصف، أحرقه الجنود قبل انسحابهم. على باب البيت، أو ما تبقّى منه، كان حمزة يجمع ما تبقّى من حشائش الأرض ويُطعم حمار جارنا المحاصَر بالركام. رأيته وقد نحل جسده واصفرّ وجهه. وحدها الابتسامة هي التي أنستنا كلّ هول. صافحناه، عانقناه، قبّلناه، بقدرِ ما في الجسد من طاقة، ثمّ شرعنا في رحلة البحث عن الجار الشهيد. لقد غيّرت جرّافة الـ«دي ناين» معالم الحارة، جارفةً الإسفلت والركام وأعمدة المنازل وسيارات الأهالي. وفي أسفل كلّ تلك الكَومة، تبدّى شيء من جسده. جمعنا أشتاته، ثمّ بغطاء سرير حمزة الذي لم يمضِ على زواجه ثلاثة أشهر، كفّناه، وصلّينا عليه، وفي فسحة من التراب واريناه الثرى.
يعطيك حيّ تل الزعتر انطباعاً عن السلوك العسكري الإسرائيلي الذي يصاحب عمليات التوغّل في وسط الأحياء المكتظّة بالعمران. تقصف المدفعية كلّ المنازل، فيما تطلق طائرات «الكواد كابتر»، طوال الوقت، الرصاص على كلّ من يتحرّك. أطنان من فوارغ الرصاص ملقاة على الأرض، والمئات من الكلاب والقطط النافقة في كلّ مكان. المنازل التي بقيت قائمة على أعمدتها، لا تصلح للسكن أيضاً؛ إذ دُكّت بالمدفعية وأُلقيت في داخلها قنابل حارقة. ثمّة علاقة ثأرية كذلك بين جنود العدو ومناهل الصرف الصحي، والتي لم يتركوا واحدة منها من دون أن يحفروها ليطمئنوا إلى أنها ليست فتحة نفق.
أبو أحمد هو واحد من الأهالي الذين لم يغادروا الحيّ طوال مدّة الاجتياح. تفاجأ عندما خرج من المنزل شاحب الوجه، هزيل الجسد، مرتعد الأطراف، بوجودنا. سألَنا في بادئ الأمر: «انسحبوا؟». لقد عاش الرجل الخمسيني خمسة عشر يوماً تحت درج منزله السفلي من دون أن يتحرّك من مكانه. غذاؤه قليل من الماء والتمر. وبعد أن تنفّس اليوم الصعداء، أردف مستفسراً: «كانت تصلكم أخبار عن اشتباكات الشباب مع الجيش... طوال مدّة التوغل وأنا أسمع صراخهم وعويلهم مع تكبيرات المقاومين... أكلوها هان منيح».