غزة | تحوّلت وقائع الساعات الثلاث، التي توغلت فيها الدبابات الإسرائيلية إلى عمق حيّ القصاصيب، للوصول منه إلى مركز مخيم جباليا، إلى أسطورة، يختلط فيها ما هو حقيقي، بما هو غير ذلك. أخيراً، وطأت أقدامنا الحيّ الذي سُويت أكثر مبانيه بالأرض. في مدخله من الجهة الشمالية، التقينا أم رمضان، وهي مُسنّةٌ سمحة الوجه، تجلس في مقابل ما تبقّى من منزلها. خلطت المرأة دموعاً بابتسامات، بينما تحكي عن وقائع الحدث المهول: «كنا في منازلنا عندما بدأ الناس بالهروب، وهم يتحدثون عن وجود قوة إسرائيلية خاصة في أحد منازل الجيران. هناك، خرج إليهم الجدع إسماعيل أبو عواد، وصار يرش عليهم رصاصاً وقنابل... سمعنا صراخهم والله يما».في الحيّ، يتحدثون عن رجل وابنه كانا قد رفضا الانصياع لتهديد العدو بإخلاء المنازل، وهو، في المناسبة، ليس تهديداً بالكلام والمنشورات، إنّما بالقصف المدفعي العنيف، الذي يغلب عليه الدخان الخانق والقنابل المضيئة والحارقة. خرج الرجل الشهيد وابنه بالأسلحة الفردية والقنابل، ووصلا إلى حيث تُعسكر القوة الخاصة، وخاضا معها اشتباكاً استمرّ لعدة ساعات، قبل أن يقضيا بقصف من صاروخ طائرة استطلاع. يراعي الأهالي الجانب الأمني، ولا يحبذون الإفصاح حتى عن أسماء الشهداء، كي لا تصبح عائلاتهم عرضة للقصف الانتقامي.
ثلاث ساعات فقط، استمرّت العملية في عمق المخيم، حيث لم يخض جنود العدو مواجهة «نظيفة» للوصول إلى مركز شرطة مخيم جباليا. تروي أم أحمد صالح وقائع الحدث بالقول: «اقتحموا مدرسة الفوقا التي تؤوي آلاف النازحين بعدما دكّوها بالمدفعية والقنابل الحارقة. استشهد أكثر من 15 نازحاً وأصيب العشرات. طالبوا الرجال بالخروج عراة واعتقلوهم، ثمّ طالبوا النساء والعجائز بالوقوف أمام الدبابات، فيما بدأ جندي يطلب منا عبر مكبر صوت التقدم ببطء. وبينما نحن نمشي، مشت خلفنا الدبابات. ولما وصلنا إلى مركز جباليا، طلبوا منا الذهاب إلى المدارس الشرقية في المخيم». ماذا فعلوا هناك؟ يقول إبراهيم أبو العيش إن جنود العدو الذين أحاطوا أنفسهم بالنساء، رفعوا علمهم على بوابة مركز شرطة جباليا، من دون أن يدخلوه، ثمّ التقطوا صورة للمشهد وانسحبوا.
في القصاصيب، يعود الأهالي لتفقد منازلهم بشكل يومي. ورغم أن الدبابات الإسرائيلية دمّرت حتى طرقات الحي، فإن ثمة من يعمل بشكل دؤوب لاستصلاح غرفة واحدة من المنزل، تقيه شر البقاء في مراكز الإيواء. أمّا عائلة الشرافي، فيشغلها أمر آخر، حيث يجمع الشبان بعضهم البعض في كلّ صباح، ويحاولون انتشال ما يستطيعون الوصول إليه من جثامين الشهداء. «أكثر من 60 شهيداً لسا تحت الدار»، يقول حسني الشرافي، مضيفاً في حديثه إلى «الأخبار»: «قصفوا عليهم البيت في تاريخ 7/12. كانوا جميعاً أحياء ومصابين لكن محاصرين بالركام. حاولنا طوال يومين إخراجهم، سمعنا صراخهم، ولكن لم ننجح إلا في انتشال جثمان شهيد واحد، وطفل صغير أخرجناه حياً».
يكدّ الشبان بالمطارق والأدوات البسيطة لانتشال جثمان سوار، ابنة الأعوام التسعة. كان جسدها العلوي ظاهراً، فيما يجثم عامود باطون وطابق كامل على قدميها ووسط جسدها. قطع الشبان لها وعوداً بأن يخرجوها حيّة. مضى يومان وهي تحدّثهم وهم يمسكون بيدها، قبل أن تسلّم الروح إلى باريها. اليوم، عادوا ليبرّوا بقسمهم، ولكن بانتشال جثمان الشهيدة الطفلة.