في 9 نيسان الماضي، كتب الرئيس الثالث عشر للبنك الدولي ديفيد مالباس، مقالاً نُشر على مدوّنة البنك، عن نشوء أسعار الصرف الموازية والتشوّهات التي تخلقها وعن ارتباطها السببي بالفساد. وحدّد 24 اقتصاداً في بلدان صاعدة ونامية، من بينها لبنان، فيها أسعار صرف معتمدة رسمياً مقابل أسعار صرف موازية، وفي 14 منها يشكّل الفرق بين السعر الرسمي والسعر الموازي مشكلة حقيقية لأنه يتجاوز 10%. لم يخصّص مالباس أي بلد في كلامه، إنما تحدّث عن مضار هذه التعدّدية وما تخلقه من تشوّهات والمؤشرات التي ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً، مشيراً إلى أن الجوانب الاقتصادية المرتبطة بأسعار الصرف الموازية واضحة: هي باهظة الكلفة، ومُشوِشة بدرجة كبيرة لجميع المشاركين في السوق، وترتبط بارتفاع معدّلات التضخّم، وتعيق تنمية القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي، كما أنها تؤدّي إلى انخفاض معدلات النمو. وتعود أسعار الصرف الموازية بالنفع على المجموعة التي يمكنها الحصول على النقد الأجنبي بالسعر المدعوم، وهناك ارتباط قوي، إن لم يكن ارتباطاً سببياً، بين وجود أسعار صرف موازية والفساد.

المصدر: دفيد مالباس - مدونة البنك الدولي | انقر على الجدول لتكبيره

ولفت مالباس أيضاً إلى أن سياسات صندوق النقد الدولي تدعو إلى معالجة تشوّهات أسعار الصرف، لكنه يعتقد أن التقدم كان محدوداً في العديد من البلدان التي تعاني فوارق واسعة في سعر الصرف، ومنها الأرجنتين وإثيوبيا ونيجيريا. ففي بعض البلدان، شرعت السلطات في عملية توحيد سعر الصرف لكنها تُقدم رجلاً وتؤخر الأخرى لأن المصالح المكتسبة ستضطر إلى التخلي عن هذا النوع من الدعم. وغالباً ما ينتهي النهج التدريجي لتوحيد العملات الأجنبية بعدم توحيدها رغم الترتيبات المتكرّرة للصندوق.
في لبنان توجد دلالات أكثر على وجود الفساد الذي تحدّث عنه مالباس. فمن جهة ليس هناك سعر صرف رسمي واحد، بل لدينا أسعار متعدّدة معتمدة رسمياً؛ منها ما هو معتمد من أجل التحصيل الضريبي، ومنها ما هو معتمد من أجل نفقات الموازنة، ومنها ما اعتمده مصرف لبنان عبر منصّة صيرفة، بالإضافة إلى السعر في السوق الموازية. بالنسبة إلى مالباس يكفي أن يكون هناك سعر معتمد رسمياً وسعر صرف السوق الموازية للاستنتاج بأن هناك علاقة سببية مع الفساد وممارساته، لكن في لبنان بالإضافة إلى الأسعار المتعدّدة والواضحة، هناك أسعار نسبية بين مستوياتها المختلفة لتسديد الودائع والقروض وحسمها في السوق أيضاً.
وما يعزّز اتجاه العلاقة السببية مع الفساد في لبنان، أنه منذ اليوم الأول للأزمة استهدف مصرف لبنان خلق تعددية في أسعار الصرف من شأنها تذويب الودائع في القطاع المصرفي، وهي التي تشكّل القسم الأكبر من خسائر النظام المالي، وإبطاء عملية الانتقال من مرحلة الأزمة إلى مرحلة التعافي، لإبعاد الأنظار عن توزّع المسؤوليات بين السلطة الحاكمة. وعندما يشير مالباس إلى الفساد بوصفه أداة منهجية ومدروسة، فإن كلامه بالتأكيد ينطبق على لبنان، فهو لا يرجح أن يكون هناك تعافياً في أسعار الصرف حتى مع انخراط الدول المأزومة في برامج مع صندوق النقد الدولي تشترط إنشاء أنظمة صرف موثوقة، وهذا الأمر نتيجته بدأت تصبح أكثر وضوحاً في لبنان على مدى سنوات الأزمة الأربعة، إذ إن الهدف الرئيسي من خلق تعددية أسعار الصرف في لبنان، إبقاء معدلات التضخم السنوية مرتفعة حتى تبقى الأسعار المحلية في مستويات مرتفعة لترفع من معدلات البطالة والفقر والهجرة. وبذلك، يصبح اعتماد النشاط الاقتصادي على الخارج مفرطاً أكثر مما كان قبل الأزمة، وهو ما يسمح بمواصلة عملية تذويب للخسائر خدمة لقوى السلطة. كل ذلك يحصل بقرارات وتعاميم صادرة عن مصرف لبنان، وبغطاء واضح من قوى السلطة التي تمتنع عن القيام بأي خطوة في اتجاه عملية تصحيح تستهدف عكس المسار القائم.
الفساد بهذا المعنى، ليس مجرّد عملية سرقة يقوم بها موظّف في هذه الإدارة أو تلك، إنما هو بنيان حصين عبر شبكة متراصة من العلاقات بين شرائح مختلفة. الشبكة وقيمها وأدواتها وأصحاب المصالح حولها، كلها عبارة عن فساد. وهذا النوع من الممارسات لا ينحصر بفئة، بل هو شبه عام، وبات يُنظر إليه باعتباره جزءاً من منظومة القيم، أي إن من يخالفها يصبح شواذاً، ومن ينخرط فيها يوافق على حصّته مهما كانت ضئيلة أو كبيرة. لذا، أصبحت تعددية أسعار الصرف أداة أساسية يصعب التراجع عنها إلا من خلال تعديل جذري في جدول الأعمال الذي لم يعد يتعلق برسم مسار للنهوض الاقتصادي والاجتماعي، إنما بحفاظ السلطة السياسية على رؤوسها.