إنها لمسألة شديدة الأهمّية تكمن في أن تختار ما لم يختره الآخرون، أن تكون مغايراً، متميزاً، متفرداً في عصر الشبَه والتشابه. المسألة هذه، قبل كل شيء، شديدة الخطورة، لأنها تقتضي التمرد على التقليد، وكسر أبوّته الأخطبوطية التي تمتدّ من خيارات الفرد إلى خيارات الجماعة لكي تتحقق. إن الشعر مطرقة من مطارق هدم السلطة، وبوّابة مفتوحة لدخول الإنسان لحظته الآنية. الشعر وسيلة محمّلة بغاية، وليس وسيلة لتحقيق الغايات. ستسألني ما الفرق؟ سأجيبك لاحقاً، لكن بدايةً دعني أخبرك: هناك رواية اسمها «رواية الأفلام» للروائي التشيلي إيرنان ريبيرا لتيلير، تسرد فيها بطلة الرواية، الطفلة ماريا مارغريتا، لأخواتها ولأبناء القرية، ما شاهدته من أفلامٍ. عليكَ أن تعتبرني ماريا مارغريتا في هذا المقال.

في فيلم «مجتمع شعراء الموتى» لمخرجه بيتر وير، معالجة عميقة لمسألة فلسفية واحدة لكنها تتجلى بتمظهراتٍ عديدة، إذ يطرح الفيلم قضيّة وجودية بقالب حداثي؛ هو السؤال عن الهوية، واعتناق الذات لذاتها. وهذا يبدأ أولاً بالتمرد على السائد، ومواجهة «الشروط الموضوعية» بدون مهانة، والقطيعة مع كل ما من شأنه أن يعيق طموح الأفراد في التطلّع والوصول. بيد أن الهدف لا يتحقق بدون كلفةٍ، وأحياناً يكون ثمن هذه الكلفة باهظاً كالانتحار شنقاً. سيضع بيتر وير أبطاله على طريقٍ وعرة غير مؤهلة للمشي السليم، لتكون الشوكة الأولى التي ستخرق نعالهم قادمة من جهاز من «الأجهزة الإيديولوجية للدولة» حسب تعريف ألتوسير، أي المنهج المدرسي التقليدي الأبوي. شوكة ستخلق جرحاً طفيفاً مقارنةً بالمخاض العسير الذي سيُشكل، في ما بعد، طينة أبطاله، وسيساعدهم على خلق «ماهيتهم» وتحقيق تفردهم، لكنه سيكون مجبولاً أيضاً بمأساة، وموت، وألم. فلا نهاية سعيدة في خيارات الوجوديين، كما أن الحرية في وجهٍ من أوجهها، تعني الشقاء، والأحرار يعلمون هذا.
البداية الحقيقية للحرية التي تتكشّف في الفيلم، تبدأ في اللحظة التي يطلب فيها أستاذ الأدب الإنكليزي «كايتنغ» (روبن ويليام) تمزيق المقدّمة التي وردت في الكتاب الذي يتعلمون به، والتي تتحدّث عن الشعر، عن طبيعته وقوانينه، عن معايير تقييمه، والطريقة الميكانيكية التي تمارس عليه في احتساب الأوزان والقوافي بشيء أشبه بالمعادلات الرياضيّة. التمزيق هنا هو أقرب ما يكون إلى قطيعة مع المعايير القديمة لفكرة الجمال، والشعر، وعواطف الإنسان. فالأستاذ «كايتنغ» يؤكد لطلابه، ما هو مؤكدٌ لنا: فهم الشعر بالطريقة الأوتوماتيكية هو تضحية بأرواحهم وبقلوبهم. نصيحته ستكون ملحقة بلقطةٍ مكثفة بالدلالات: سيمرر وير الكاميرا على أيدي الطلاب، سيركز «كادره» على هذه الأيدي لنرى الطلاب يمزقون، آخر ورقة في مقدمة الكتاب، صفحةٌ مكتوبٌ عليها بخطّ عريض كلمة «poetry» (الشعر). يشير الناقد السينمائي يوري لوتمان إلى «أنّنا حين نشاهد لقطة مقرّبة Close-up ليدين تملآن الشاشة كلّها فإنّنا لا نقول في أنفسنا إن هاتين يدا عملاق، في هذه الحالة لا يكون الحجم معبّراً عن الحجم إطلاقاً بل يدلّ الحجم على مغزى وأهمّية التفصيل». التفصيل المركّز على اليد التي تمزق، ستحيلنا إلى فهم أن الحرية تبدأ برفض كلّ ما استقرّ واستتبّ على القوالب والأنماط الجاهزة.
عندما أصدر «كايتنغ» تعليماته بأمر التمزيق، تردد الطلاب وأصيبوا بالجفول. إن القطيعة الحقيقية تتطلب وقتاً. هي لا تحلّ فجأة وكأنها تعويذة، كما أنها تشترط وقتاً، بل زمناً، حتى «يهضمها» الوعي. فالطلاب، هم أبناء مدرسة داخلية ذات أسوار عالية. هي مدرسة توحي، شكلاً ومضموناً، بأنّها كليّة تخرّج النخب. كل شيء يؤكد على ذلك؛ الزيّ الموحّد، شعار المدرسة، مقررات المنهج، وعلاقة المديرين مع الأهل... وبالتالي، فغرضها التعليمي يقتضي تأبيد القديم وتكريسه، والوقوف سدّاً منيعاً أمام الحداثة، وتعمل جاهداً لكي لا يطفو التمايز- التفرد- على السطح.

الشعر كمدخلٍ إلى الحرية
يرتكز فيلم «مجتمع شعراء الموتى» على سردية التحدّي القائمة بين الأستاذ وطلابه من جهة وبين السلطة الأبوية المتمثّلة بالمدرسة والتقاليد والعائلة من جهةٍ أخرى. هو إذاً تحدّ بين عقليتين: بين «جديد» يسعى إلى الحرية والتفلت من ضوابط «المنهج» وصرامة الأوزان، و«قديم» ذائع على المستوى الجماعي، وهو «الحس العام» حسب توصيف رولان بارت، أي هو تلك الروابط أو العلاقات المنسوجة بين الأفراد بناءً على مكانتهم الاجتماعية، ووظيفتهم الاقتصادية، والتي تحصرها رؤية ثابتة حول العالم، والحياة، والجوهر. و«القديم» يسعى إلى تخليد نفسه، وتقديس إنتاجاته، والبقاء على علوّه، ناظراً إلى سيرورة الحياة من برجه العالي رافضاً التورط بمجرياتها. نتحدث عن تحدٍّ بين الحداثي والتراثي. أي حين يتحوّل التراث إلى «دوغما» صلبة ينبغي رفضها، لأنه يجب رفض كل ما ينظر إليه على أنه مقدّس فقط لأنه يصون مصالح، ويحافظ على استقرار شكل اجتماعي معين. فالقطيعة التي يبتغيها الفيلم، قوامها رفض هذا التراث والتخلص منه، لأنه، وباعتباره «دوغما»، يتخطى الشعر ولا يتوقف عنده، بل إن الشعر هو أحد تجليات هذه الـ«دوغما»، فالأساسي في هذا الرفض هو العقلية السائدة، وطبيعة العالم -الثابتة والنخبوية- التي يتصورها هذا العقل. يبقى أن الفيلم يزخر مثلاً، بمقولات لشعراء (قدامى) رومانسيين، بحيث كانت أشعارهم تصبّ خارج المألوف وترفض سيرورة عصرهم.
اتخاذ «الجديد» سبيلاً سيقود الطلاب إلى تأثرهم، بل تبنيهم، حركات وأشعار السورياليين، الرائدين طبعاً، في مجال الحرية. يقوم أحد الطلاب بإلقاء قصيدة عن قطّته، لتأتي نصيحة «كيتينغ»، مغلّفة بنمط من السوريالية المتوارية، بأنه يمكنه الكتابة عما يشاء شرط أن يقدّمه بشكل لائق. فالمهم، حسب «كيتينغ»، هو صناعة الفنان، وتمكنه في بناء أسلوبه، وليس فقط ما يقوله. كان فلوبير سبّاقاً على السورياليين عندما اعتبر أن الفنان يستطيع أن يتناول أشدّ الموضوعات تفاهةً دون أن يخشى أن يقلل من تقدير عمله ما دامت يده حاذقة. نصيحة «كيتينغ» ستخبرنا أن للـ«جديد» أيضاً، قوانينه، ومساراته، ومعاييره.
إن الحداثة هي تجاوز للرؤى السائدة. هي دعوة إلى رفض التصورات التي تحدد مسبقاً علاقة الإنسان بذاته وبالآخرين وبالعالم، لذلك، فليس «كيتينغ» وبيانه الشعري سوى مطية لممارسة الطلاب لهذه الحداثة، وليس الاكتفاء بمعرفتها من خلال الكتب، ومجرد حفظ أبعادها النظرية. على هذا النحو، تصبو حوارات «كيتينغ» مع طلابه مثل «إنكم أحرار إذا أردتم، فليس في صميم بنائكم ما يمنعكم من ذلك» أو «هناك مسؤولية أثناء ممارسة الحرية في عملية الاختيار بين أساليبها. عليكم أن تتشجعوا في تحقيق ماهيتكم دون أن تودوا بأنفسكم. عليكم المواجهة، لا التهوّر، وإلّا مصيركم الموت انتحاراً» أن تكون أقوالاً شعرياً فاعلة، هي بالأحرى ممارسة شعرية، فـ«كيتينغ»، الداعي إلى التحلّي بالأسلوب، يحض طلابه على التمتع به، بأسلوبيته. على هذا النحو، تصبح رؤية الساعي إلى الحرية منقشعة. فبعد خطوة التمزيق، تأتي الورقة البيضاء، على أن الكتابة على الورقة البيضاء تشترط أسلوبها. أسلوب سيشترط على صاحبه مزية التمكن من كتابته، والتمكن من تقديم هذه الكتابة. يزيل «كايتينغ» عن طلابه رداء القديم، يدلّ بإصبعه على باب الشعر ليكون، بدوره، مدخلهم إلى الحرية. علينا أن لا ننسى: إن الورقة البيضاء هي، ورقة جديدة، وهي بيضاء لأنها حرّة من كل إملاء، وفرض، ومحددات سابقة.

حداثة متفائلة
إلا أن هناك ما يبدو ملحّاً علينا، وهو تقديم قراءة، ولو جاءت سريعة، عن الأصول العميقة للتمسّك بخيارات الأهل وصعوبة الانفلات عنهم، بالأحرى عن لزاجة «القديم» وضرورة تجاوزه. والمسألة هذه تنعكس بشكلٍ مباشر في المواقف التبريرية عند شوبنهاور، في موقفه القائل بضرورة التخلّص من الإرادة، والتحرر من الرغبات. بالنسبة إلى شوبنهور، إن الحاجات التي لا نستطيع إشباعها ينبغي علينا إذاً أن نستغني عنها، لأنها ليست سوى ضرب من المناوأة. وقد حاول المهتمّون بفلسفته العثور على السر الكامن وراء رؤيته العدمية، فيعتقد المنظّر إدوارد فون ماير أن ظروف شوبنهاور العائلية والفترة التي عاش بها، وصراعه الحاد مع والدته خلقت له خيبة أمل عظيمة، ما أعدّه خير إعدادٍ لقبول فكرة الفرار من الحياة والتأسيس لفلسفة تشاؤمية. يتضح أن هناك ترابطاً عميقاً بين ما جاء به شوبنهاور، وما حاول معالجته الفيلم. يتجسّد شوبنهاور في الفيلم في هيئة السلطة الأبوية الشاملة، التي تحافظ على مجرى الحياة المألوفة في المجتمع، والتخلّي عن الإرادات الفردية التي ستكون مستباحة طالما أنّ هناك إرادة فوقية متحكّمة تجيء على شاكلة أعراف وتقاليد الأهل وتراث الجماعة. نتحدث عن شوبنهاور في السياق الفيلميّ هذا، يعني أننا نتحدث عن «القديم» الذي يدعو «كايتينغ» طلابه إلى تجاوزه. إن الفكرة الأساس من «مجتمع شعراء الموتى» هي أن بناء المرء لذاته، وتحقيقه لماهيته، هما نتيجة إرهاصات، وأن القطيعة لكي تتحقق كاملاً، ولكي يرسو «القاطع» معها على مشروعه، تحتاج إلى وقتٍ وممارسة متواصلة. لقد تجسّدت خطوة الطلاب الثانية عندما راحوا ينقبون عن ذواتهم، ويخلقون أنفسهم، باعتبار أن «الإنسان هو مشروع» حسب قول سارتر، وقد جاءت بعد الخطوة الأولى، عندما رفض كل واحد منهم الاستجابة لأحواله الاجتماعية المحيطة به. وهذا كفيلٌ لتكون الحداثة المرجوّة من «مجتمع شعراء الموتى»، حداثة مكتملة، ناضجة وغير ناقصة، إذ ليس «مجتمع شعراء الموتى» للأموات، على العكس، هو رمز للحياة، هو مختبر وجودي لتحقيق «الذات» كما اختارها كل طالب، بملء إرادته وكامل حريته، وهي بالطبع، نقيضة الدعوة الاستسلامية التي طرحها شوبنهاور، والمتمثلة بـ«القديم» المحافِظ، الذي لا يرى من الحياة إلا توليداً لأنساقه. إن مقولة إيريك فروم، تجاوب على هذا «القديم»، بشكلٍ بليغ: «تتضمّن طريقة الحب وفق أسلوب التملّك، السيطرة على من نحبّ واحتواءه وسجنه، إنّها عملية خنق وإهلاك وليست عطاء للحياة. إنّ عدد الأمّهات والآباء الذين يحبّون أطفالهم لا يزال مسألة تحتاج إلى البحث».

إلى الشعر من جديد
الشعر هو الشيء الوحيد الذي لا يُفَسَّر ولكنّه يفسّر كلّ شيء. فمن وجد ذاته في مجتمع شعراء الموتى كان الشعر منطلقه. الأستاذ المختصّ في الأدب الإنكليزي كان الشعر وسيلته في تحقيق غايته على حثّ الطلاب على التغيير والبحث عن أنفسهم، ومن دخل للتمثيل خلافاً لرغبة والده، كان شكسبير أساس عمله المسرحي، ومن وقع في الحبّ كان الشعر عتبة دخوله إلى قلب محبوبته، ومن لم يستطع في بداية الفيلم أن يتصالح مع نفسه ومع الآخرين بسبب خجله من عدم اكتشاف مكنوناته، كان الشعر في الأخير خلاصه الوحيد لخروجه من الصمت. للشعر في الفيلم دلالة سيميولوجية على شاعرية الحرية، وعلى قوّة الكلمة في التغيير، ولذلك هو وسيلة ذات غاية وليس وسيلة لتحقيق الغايات. وفيلم «مجتمع شعراء الموتى» يقع ضمن دائرة ما يُسمّى حسب إمبرتو إيكو «قراءة الاستعمال» حيث يخضع النص -وهنا الفيلم- بكلّ الوسائل حتى يكون ناطقاً بما تراه هي.
تنويه: لا تقرأ المقال إلا وأنت واقف على الطاولة. لماذا؟ شاهد الفيلم لتعرف.