لو كانت ثمة فرصة لوضع كتاب شبيه بكتاب مارتن إسلن عن «دراما اللامعقول» الذي يحكي فيه عن كتّاب مسرح العبث، ولكن هذه المرة أن يُخصَّص الكتاب عن لامعقولية العالم كلّه، عن الغروتسكية، والفجائعية، والفانتازية، والمأساوية فيه، لكان لفلسطين معظم فصول الكتاب، أو كلّه، أو جزء ثانٍ منه، أو مجلّدات، وقد يمتدّ إلى موسوعة. إن فلسطين تبحث عن زمنها الضائع، المُستباح، المسروق، والمُتحكَّم فيه. تبحث عن النقطة أو عن النقاط التي توقّف فيها العالم عن جريانه ودورانه بالنسبة إليها فعطَّل زمنها، وغيَّر إعدادات بشرها وحجرها وجغرافيتها ومائها ويابستها وأبنيتها وشوارعها وساعاتها وأزمنة ساعاتها، ودقّة أوقات ساعاتها. حاول الشهيد غسان كنفاني من قبل أن يقول في روايته «عائد إلى حيفا» إن فلسطين ليست استعادة للذكريات، إنما هي صناعة للمستقبل. وقد قالها صراحةً وعلانية: «لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، فالوطن هو المستقبل». لكنّ هذه الفكرة، أي حصر الوطن أو الزمن في جهة القادم إليه بإغفال العين عمّا مضى منه بسبب مأساويته، مفتوحة على الاحتمالات، وقابلة لأن تتبدّد وتسقط في ضربة يأسٍ واحدة. قال غسان في الرواية نفسها: «الوطن هو ألّا يحدث ذلك كلّه يا صفيّة» ممّا يحيل إلى أنه لم يغمّض عينه، لكنه دعا إلى إغماضها عن المُفجِع في الماضي، وفتحها على عدم تكراره في المستقبل.

إسماعيل شموط، «الحلم والكابوس»

بالنسبة إلى فلسطين والفلسطيني، فإن التاريخ مسألة جينيّة ووراثيّة أكثر منه مسألة وعي وإدراك للتاريخ، وأكثر منه مسألة تفكير في الشرط التاريخيّ. إن التاريخ، بوصفه فاجعة وكارثة فلسطينيّتين، ينتقل بكل ما فيه من عبث ولامعقولية مع الحيوان المنوي إلى البويضة. ولهذا الحيوان مأساته التاريخية وللبويضة مأساتها، ليتمّ التلاقح أو التلقيح بينهما، بغروتسكية وعبثية ومأساوية. إن عمليّة إنجاب فلسطينيّ في هذا العالم تختلف عن عمليّة إنجاب أيّ إنسان آخر لأنّ للجنين المولود جرحاً إضافياً؛ لأن روحه أثقل، وجسده أخف. ولأنه يضطر أن يحمل لا ذاكرة إنسانيّة واحدة، بل ذاكرة للبشريّة كلّها. إن الجنين الفلسطيني، ليس جنيناً وحسب بل هو تاريخ، هو ماضٍ مُستحضَر، وحاضر يحاول أن يظلّ مشاركاً في حركة سير العالم. إن الجنين الفلسطينيّ، أيضاً، موقف كياني من الحياة والتاريخ والزمن.
«في مكانٍ مختار من الدير يرتفع تمثال رائع من الفن الباروكي يمثّل الشخصية المزدوجة للتاريخ. في المقدمة كرونوس الإله المجنّح (للزمان). إنه عجوز زنرت جبهته. تمسك يسراه بكتاب، تحاول يمناه أن تنتزع منه ورقة. خلفه، ومائل من الرأس، التاريخ عينه. نظراته جدية وثاقبة، قدم تقلب بوق رخاء، تخرج منه كميات ضخمة من الذهب والفضة في إشارة إلى عدم الاستقرار؛ اليد اليسرى توقف حركة الإله، في حين أن اليمنى تعرض آلات التاريخ: الكتاب والمحبرة والمسبرة- دير فيبلنغن، أولم». يستعمل بول ريكور الفقرة السابقة كتقديم لكتابه «الذاكرة، التاريخ، النسيان»، وهي فقرة قابلة للتعميم على آلية عمل العالم وآلات تاريخه. أما الفلسطيني فإنه هو نفسه آلة تاريخه. هو الكتاب والمحبرة والمسبرة. هو كرونوس زمنه، وليست يداً يسرى واحدة تلك التي أوقفت حركته، وليست يداً يمنى واحدة تلك التي تحاول أن تسرق منه ورقة. الزمن بالنسبة إلى الفلسطينيّ ليس شيئاً مجرداً، إذ ظلّ يحاول، منذ بداية النكبة التي أوقعها العالم في حقّه، أن يخلق من زمنه أشياء محسوسة، وأن يقول إنه من الممكن لمس هذا الزمن، وهو ليس عصياً على القبض أو الاستعادة.
عمليّة خلق الفلسطيني بوصفها موقفاً وفجيعة لا موقفاً بشرياً وحسب بل موقف إلهي- وكأنّ الإله الذي يرى أولئك المحطّمين في الأرض تائهين وزمنهم ضائعاً ويقول لهم أرجوكم استمرّوا- هذه العمليّة برمّتها، تتحقّق كطقسٍ إنسانيّ. والطقس محاولة لفهم العالم، كما هي حال الأسطورة. لذا، فإن خلق الفلسطيني ينطوي على ظروفٍ طقسية وأسطورية، وهو في حدّ ذاته رمز، وشيفرة تواصل بين الفلسطينيين وزمنهم الضائع.
يروي الحيوان المنوي الفلسطيني للبويضة الفلسطينية ما شهده وعاينه من آثار التاريخ المتبقية على شكل ندبات أو حفر في جسد صاحبه. وتروي البويضة بدورها ما شهدته من ردّات ورضّات، وكسور نفسيّة في روح صاحبتها. إن عملية إنجاب فلسطينيّ في هذا العالم، هي امتزاج مأساتين لإنجاب مأساة. تورّثها المأساتان بعضاً ممّا فيهما كي تخفّفا من وطأة وقسوة التاريخ والحاضر عليها.
يفترض الناس اليوم، مثل دين هامر، جينات يطلقون عليها أسماءً مثل «جين الله»، كما عنون هامر كتاباً له «جين الله، كيف يكون الإيمان ماثلاً في جيناتنا» بحيث يفترض فيه أنّ الروحانيّة، ومنها الوجود الإلهي، تحتوي على مكوّن وراثي. فالافتراض أن للفلسطينيّ جينه الخاص يمكن طرحه. أي أن يكون للفلسطينيّ جين معيّن يهيّئ له مصيره؛ خوض حياته اللامعقولة، والتي ورث ما فيها من فجيعة، وصفاتٍ وتعريفاتٍ كذلك. إن اللاجئ، الذي لم يكنه الفلسطينيّ، صار جزءاً مُضافاً إلى ماهيته وكينونته، ولا يمكن إنكاره أو تجاوزه. وفيما بعد فإنّ النازح، والذي لم يكنه الفلسطينيّ، صار جزءاً كذلك من هذه الكينونة، ولا يمكن القفز عنه. والمخيّم، بوصفه كياناً جديداً دخل إلى هوية الفلسطينيّ وصار في ما بعد يشكّل جزءاً من هذه الهُويّة.
إن مجمل التعريفات، تلك التي تقرّها الأونروا مثلاً، والمسميات الجديدة، تتطلّب استنزافاً للذاكرة كي تُحفظ، كما تشلّ كيان وكينونة الفلسطيني بوصفه إنساناً. إنها تجرّده من إنسانيّته، يصير بالنسبة إليها بطاقة مؤن، ورقماً في إحصاء، كيس طحين وعلبة سردين وكارت إعاشة. لذا، فإنّ الطقس برمته، هو استعادة الأنسنة، الشكل الأول للفلسطينيّ، قبل أن يفعلوا به ما فعلوا. إنه قفزٌ عن التاريخ، عن الحاضر وشروطه، عن المسمّيات، ومحاولة لاسترداد الخام من الإنسانيّة، والجوهر.
يشير مارسيا إلياد في كتابه «أسطورة العود الأبدي» كما يشرح المترجم والكاتب سعيد بنكراد، إلى مبدأ مركزي يفسر جزءاً كبيراً من سلوك الإنسان. فما يصدر عنه من مواقف وممارسات ليس سوى محاولة لاستعادة زمنية مستوحاة من عالم أصل، هو وحده الثابت في الوجود. إن الثابت في الوجود، أو العالم الأصل بالنسبة إلى الفلسطينيّ، هو عالمٌ مُدرَك ومتناقل عن طريق الذاكرة. ثمة جين متوارث وموروث بين الفلسطيني، هو جين الذاكرة، كما أن العودة عند الفلسطينيّ هي نفسها الاستعادة. استعادة زمنٍ ومكان مسروق، كما هي نظرٌ إلى المستقبل، لأنّ المستقبل هو نفسه الاستعادة. وقد تعطّل الزمن الفلسطينيّ أو توقّف عند تلك اللحظة عند النكبة، التي ليست تاريخيّة، إنما امتدّت عبر مسارٍ تاريخيّ طويل، قد يرجع إلى نابليون ربّما. هذا الزمن المُعطَّل، والمُستباح، والمسفوك، مرة أخرى، يخرج عن إطار التجريد، ويصير شيئاً ملموساً وحسياً يحاول الفلسطينيّ القبض على نسخته الثابتة في الوجود، أي استعادة زمن الأصل، والتشبّث به، بقبضة اليد أو الأسنان أو محاجر العين. لأنه يعرف أنّ زمنه الراهني مُشوَّه، وأنه يشكّل قطيعة مع الزمن الطبيعيّ للعالم من حوله الذي يسير إلى أمام. وإن مثل هذه القطيعة تفصل الفلسطينيّ عن أهم المحسوسات: عن الطمأنينة التي تجعل إنساناً ما مرتبطاً بعالمه.
ما يُصيِّر الفلسطينيّ بطلاً من أبطال العبث، هو أن له ماضياً لكن قوة ما بترته، قطعته عن ماضيه وعزلته، وأنه موجود في العالم لكنّ العالم ينكره ولا يتواصل معه ويعزله ويدينه، ويتركه في اغتراب وغربة، وأن زمنه لا يقينيّ، مُقلِق وقَلِق. هذا الافتراض نفسه، يُعيدنا دائرياً إلى القول إن كتاباً عن لا معقوليّة العالم سوف يكون عن فلسطين والفلسطينيّ، الذي لا يزال يقاوم العالَم والزمن بعقلانيّة، على الرغم من كلّ ما فيهما مِن غروتسك وعبث.