شابّان؛ الأوّل يُدعى «تشيرش» والثاني يُدعى «راي»، يقرّران الالتقاء للذهاب معاً إلى الغابة من أجل جمع الجوز كي يَقِيَهما ويقي عائلاتهما حاجة الشتاء القادم. الغابة كبيرة وخيرُها كثير، لكن هناك من سبقهما إليها وأخذ كل الثمار الموجودة. راهن «تشيرش» و«راي» على وجود وفرة من الثمار إن هما فتشا في الجانب الآخر من الغابة، وأثناء سيرهما صادفا حفرة صرف صحّي حُفرت بالقرب من البلدة. وفي اللحظة التي قرّرا فيها القفز من فوقها، انتبها لوجود شخصٍ في قاع هذه الحفرة، فترددا في الكشف عنه، قبل أن تدفعهما حشريتهما لمعرفة من فيها وكيف يمكن أن يقبع فيها. بعد حذرٍ وتأنٍّ، اكتشف «تشيرش» و«راي» أن الشخص الواقع في الحفرة هو «آن دان»، وهي ترقد هناك ساكنةً، ظهرُها للطين وعيناها للسماء، تغطّي بعضَ أجزاءِ جسمِها عددٌ من بقع الدم الحي. و«آن جان» هي جارتُهما في البلدة. كان لها حينٌ من الدهر مختفيةً فيه عنها. حاول الرفيقان إخراجها لكن محاولتهما لم تفلح. كانا خائفين وكانت متردّدةً، ليقرّرا أن يُخبرا أمها القلقة عن مصيرها، فأبت «آن دان» كثيراً. في الأخير، قرّر«تشيرش»و«راي» الابتعاد عن الحفرة والمضي هرباً نحو الحقل. وطيلة الطريق، كان «تشيرش» يبكي ويسأل هل ستموت «آني»؟ ظلَّ يبكي إلى أن تعثّر فوقع وسقطَ على رأسه مرّاتٍ عدة. تركه «راي» ولم يتوقّف لانتظاره حتى يلحق به.
رينيه ماغريت، «عشاق»

هل فهمت شيئاً؟ اسمع: إن العلاقات السياسية، في لبنان تحديداً، تشبه، بشكلٍ عام علاقة «تشيرش» بـ«راي». فعند اللحظة الحاسمة من التوتر في المصير المشترك، ينسلخ أحدهما عن الآخر. يمضي الأول دون انتظار الثاني. هذا لا يعني أن الثاني ضحيّة الأول. هما شريكان في جريمة التخلّي أساساً منذ اللحظة التي يقرّران فيها الهرب من إنقاذ «آني». في الفهم الأخلاقي كما جاء في تعاليم كانط المثالية، أن المحاولة واشتداد الظروف لا يكفيان للكفّ عن تحقيق الغاية الأخلاقية المنشودة. فالمسألةُ هنا مرتبطةٌ بالرغبة الحقيقية. بالتصالح الجوهري مع الذات ومع الآخرين، والأهمّ بعَقد اجتماعي، سياسيٍّ، إنساني... سمّه ما شئت، مصيره الوحيد ينبغي أن يكون الذود عن شروط العقد وخياراته.
ربما يحق لنا في هذا الصدد، أن نستكمل قصتنا الصغيرة هذه، وأن نتعدّى على حقوق مؤلفها لنتخيّل لها جزءاً ثانياً بمشهدية تتلاءم مع حقيقتِها السردية. فنقول: يصحو «تشيرش» من غيبوبة سقوطه ويكمل طريقه نحو فناء المنزل حيث يرتاح«راي». يصل مُرهقاً، ومتسائِلاً، ومعاتِباً «راي» رفيق المغامرة الطازجة، وينشِدُه: «ليك...ليه عم تعمل هيك؟صعبة العيشة هيك!». تدخل ثقافة الـ«ليه عم تعمل هيك»، إلى الجماهير السياسية في رغبة طافحة بالعتب، واللوم، وبراءة الذمة. فالسياسة في لبنان لا تقوم على الخيارات النظرية، والكيفية العملية الجادّة في إدارة الشأن العام، بل غالباً ما تأخذ شكل الخيانةِ العاطفيّة التي تصيب الشريكين، ليصبح شريك سياسي ما، كلاً واحداً مُفرداً يشعر بجرح الحبيب. لذلك تطغى على «عتبهم» مفاهيم كيديّة، تحمل في طياتها نقيض ما كانت تحمله في السابق، في فترات التلاقي والانسجام اللذين نعما بهما، وما خلّفه ذلك من هيامٍ جمعهما، واستقرار ورخاء. هكذا نجد، عند كل مطبّ يظهر أمام الأطراف السياسية التي صرّحت يوماً أنها «على تحالف»، بأننا أمام موقف مُفارق «مضحك-مبكٍ»، لأن المطب هذا يجعلنا نشعر أننا مثل «آن دان»، في حفرةٍ قاعها عميق لا سبيل للخروج منها. فالفضائح التي طافت بعد «الجرح» المُستجد، وما يتبعها من ثرثرةٍ ونميمة، تكشف أن طلاقهم كان يبحث منذ زمنٍ عن ذريعة.
في فهم وتحليل تاريخ الاجتماع السياسي في لبنان، تتوضّح الأمور الكامنة خلف ركاكة الممارسة الجماهيرية للسياسة من جهة، وتبرز بوضوح ندوبُ الريبة والحذر الدائم التي لم تستطع أي علاقة سياسية أن تضمّدها من جهةٍ أخرى. إن المقولات الشائعة حول اللاغالب واللامغلوب التي باتت من المسلّمات في تاريخ لبنان السياسي، والقناع الكاذب للوفاق «السلمي» هذا، يلقي جانباً من الضوء على الكيفيّة التي تستمرُّ من خلالها الظروفُ لتجديد دورة العنف بأشكالٍ مختلفة. فيصبح التحدّي بين سياسات مصلحة «الوطن النهائي» خاضعاً لإيديولوجيات مبتورةٍ تُولي فهمها الإلغائيّ لـ«نهائية الوطن\ وطنها» أهمّية على ضرورة فكفكة، وتحليل، ونبذ اللجوء إلى العنف الذي لم يستطع يوماً أن يحلّ تاريخ الحرب، أو يزيل الفوارق الاقتصاديّة التي استمرت بعد الحرب، وكذلك لا هو فتح للبلاد معبراً نحو حياةٍ أكثر مدنيّة، وسلاماً وتعدّديةً وعيشاً مشتركاً. ولذلك، تصبحُ، عَرَضاً، يمينُ الجماهير ممدودةً للآخر ولكن بترصّد، ففي يسراها، دوماً، مسدّسٌ ينتظرُ التلقيم. ولعلّ الأكثر إيلاماً هنا أنه بات من البداهة السياسيّة تحول رفض الناس للأعمال التي يولّدُها النزاع المتمادي أقلّ منه للجراح النفسيّة التي تولّدها الهزيمة. ببساطة، أصبحنا نغنّي علاتنا إلى حدّ أننا فقدنا معناها المأساوي، كأن تجلس عند «زكريا» في الحمرا وتغني فرحاً تاريخك السياسيَّ بحساسيّة العشّاق المفترقين: «يا حبيب الروح شو عم بتسوّي ساعه بتخفّف ساعة بتقوّي، يا عواطف حاجي تتلوّي... صعبة العيشة هيك ليك ليش عم تعمل هيك؟»
أول ما تعلّمك إياه السياسة هنا، أن تحقيق نوع من الربح العديم القيمة المادية بين تحالف حزبين سياسيين، يتغنّى زعماؤهما بأنّ الربح المعنويَّ ذاك هو النتيجةُ الحاسمةُ للتعامل بلطافةٍ وخلقِ أُلفةٍ ومودّةٍ بين توجهيْهما، هو وهمٌ حادّ، ودعائي في الصميم. في السياسة لا وجود لمادّة لا مادية، أو ربح لا قيمة ملموسة له. لذلك يضحكُني، جدياً، أن أقرأ يوماً عنواناً لمحاضرة أو ندوةٍ سياسية ينوي القائمون عليها التحدث عن «فلسفة الحياة السياسية في لبنان» أو مثلاً عن «أسس العلاقات المتينة بين حزب فلان وحزب علتان». هي تدّعي أنها تعالجُ فهم نمط العلاقات السياسية في بلادنا، بينما هي من تصلح لتكون حالة للدراسة. اللافت في تحليل هذا الضرب من العلاقات السياسية، القائم كما أسلفنا على المنفعة العملية أنها فشلت أن تستند مقارباتها ولو على أسوأ مذهب نفعيّ فاعل، وهي البراغماتية التي تنادي بضرورة «الانتفاع» من«المفيد عملياً» مهما كانت الأفكار التي أؤمن بها. فالقيمة العملية لأفكارنا، كما يقول ملهمُ البراغماتية الأميركي ويليام جيمس: «تؤسس في المقام الأول على الفائدة العملية التي تكتسبها موضوعاتُها بالنسبة إلينا». بالتالي، حتى ولو بدا نمط التحالفات اللبنانية براغماتياً لكنه غير جوهريّ، إذ هو يفتقرُ للحسِّ المشترك في تحديد معايير المصلحة ومنافعها. على هذا النحو، لا تزال تستمرّ التحالفات السياسية في لبنان، وتحافظ على انقساماتها رغم ما يعتريها من هشاشة، وقدرة على تشويه السياسة. والسياسة، بالمناسبة، هي أكثر كلمة مستخدمة بعد كلمة الله.
تركّز بعض النظريات السياسية على دور المواجهات «الدموية» على تشكيل القوالب الأكثر وضوحاً للمصائر الجماعيّة للشعوب، ويتبعُها قولٌ أدبيٌّ لشكسبير مفاده أنه كلما حُلّت مشاكلك «بنضج» مع الحبيب شُدَّت أواصرُ العلاقة بينكما. المحاكاة الرومانسية/السياسية هذه تفيدُ في العمق للبحث عن مبرّرات التحالفات. في الدم الواضح ليس هناك نضج، ولكن في الدم الكامن ثمّة دائماً فرصةٌ للنضج ترقى بالعلاقة لطمس الدم بالكامل. يبدو هنا أن أسس التحالفات السياسية في لبنان ومصيرها دائماً ما يقفان على العتبة، فلا وضوحٌ تام ولا طمسٌ دائم، إنّها تحالفات في مرحلة العواطف والكمون، ولذلك هي قادرةٌ دوماً -كالعاشقين- أن تنضج وتزهر، وتقسو وتعاتب.
هذه الفوضى في الحياة السياسية اللبنانية ليستْ فوضويّةً، هي في الجوهر علاقاتُ توازنٍ للنظام القائم حرصاً من الجميع على سلامته. بمعنى أنّ التحالفات التي تقام، تُقام على اعتباط المصلحة المتقاطعة، كلٌّ يقدّرها من وجهة نظره الخاصة، وكأن هذا المصير، في نهاية المطاف، يكشف لنا أن جوهر المتحالفين، بمعنى أن الأحزاب هنا هي امتدادٌ «عاطفي» هشٌّ للذات «السياسية».
القصّة القصيرة أعلاه من رواية «ثمر الجوز» التي كتبها الكاتب الأميركي أرسكين كولد تصلح أن تكون تناصّاً مع الواقع السياسيّ في لبنان. وكم حصّل الغريبُ المجهولُ ثمراتِ الجوز لنفسه، فلا انتفعَ الصديقان ولا استطاعا أن يقيا عائلاتهما/جماهيرهما حاجة الشتاء/الأزمات. «آني» المدمّاة ظلّت متروكةً وحدها، تنزف حتى الموت.