مثل نصٍّ مزخرفٍ يزينه الخطّ لكن لا علامات ترقيم فيه ولا نبرات، تطلّ علينا شخوص (المدعو) سمير هاشم على صفحته الإنستغراميّة «دكتور بيوتي»، وتنضمّ إلى سلالة صنّاع استطيقيا العصر، لتنشغل مع بقية أخواتها في تحضير مائدة عشاء «الإنسان الأخير». التوصيف لنيتشه، والمقصود به كل من وجد السعادة في التسلية والترفيه من باب الانغماس المطلق بـ«شوربةِ» العصر أو وحله. المازة جاهزة، ومن الممكن أن تبرد في أي لحظة، فقد سَبَق لمذيعات نشرات الأحوال الجوّية وفناني الكيتش أن أنزلوها وأحضروها، لكن الطبَق الأساسي للمائدة ما زال على النار يُطبخ على مهل، يشترك في تحضيره دكاترة محترفون، منهم من يفضل الإبر والمصل كنادر صعب ومنهم من يهيم بالشوكة والسكين كدكتور فوود. مهما اختلفت أدوات الغرس، يبقى أن الدماغ يبدو رقيقاً وهشّاً وفارغاً على عكس ما قالوا فيه، ومن الممكن بالتالي ليّه، ومدّه، وحشوه ومن ثم خبزه. هو ذا الطحين وإلى الطحين يعود «الإنسان الأخير».
(تصميم: فرانسوا الدويهي)

«دكتور بيوتي» إذاً، وتعريب التسمية سيجيء هجيناً. على أن الهشاشة هذي تماثل المحتوى التي تعرضه الصفحة وتتطابق مع أشكال الضيوف. فالمدلول هنا لا يعني طبيب تجميل، كما أن الدال، أي (المدعو) سمير هاشم، ليس بحكيمٍ رواقي يرى الجمال فضيلة قوامها أحكام الإنسان بناءً على رؤيته لما هو معروضٌ. لكننا في مستشفى الأعصاب هذه اعتدنا على تورّم الغدد التي بتضخمها تجعل ما ينطق به اللسان هذياناً، وعلى مفرداتٍ فضفاضة مبنيّة على المجهول.
لقد جاء في قولنا: «تطل علينا» الشخوص، لأن من يطلّ عادةً هو ذاك الذي يلتفت يميناً أو يساراً، أو من يباغتك عند قدومه، أو هو الذي، كما جاء في المعجم، «يتمدد قائماً لينظر إلى ما هو بعيد عنه». وشخوص سمير هاشم تنشغل جميعها في جعلنا نصدّق أنها مشغولة بشيء؛ إنها غير آبهةٍ بالكاميرا ولا بالعين التي ترصدها، إنها قائمة بذاتها وبعيدة عن السياق، وإذ بعدسة المصور وأسئلة المذيع (؟) توقظ هذه الشخوص من غفلتها. وهذا كلّه من ضمن التمثيل طبعاً، ذلك أن البلاستيك سلوكٌ أيضاً، وهو غير محصورٍ بالهيئات فحسب. ومن الحقل المعجمي للاطلالة نجد الطَّلَّة، والأخيرة تعني المرأة، والطَّلَّةُ تعني أيضاً المظهر والمحضر، كما أنها تعني النعمة في المطعم والملبس، فيما هذه المعاني جميعها تقودنا إلى عالم «دكتور بيوتي» وتصوِّر لنا بدون فوتوشوب خصائص وبورتريهات أبطاله.
الوجوه مشدودة، عصرية لا تشوبها شائبة، أما الأجساد فمنحوتة، خالية من الدسم، من التجاعيد، متموّجة لا تعرف التقوّس. هنّ في الصيفي أو في عين المريسة أو في أسواق بيروت، وهناك يحلّ سمير هاشم مع كاميرته، ينحو إلى فتيات البوتوكس و«موديلز» وسائل التواصل الاجتماعي ليسألهن عن سرّ جمالهن؛ «شو سرّ جمالك؟». إذا ترددت واحدةُ منهن إلا أنها لن تغرق في تلعثمها سرعان ما سيندمج جوابها مع جواب الضيفة الأخرى التي تتمتع بثقةٍ حازمة: «أهلي»، وأحياناً الله، ودائماً هناك عمليات تجميل «فيلرز». الجواب واحد منبسط على الجميع يتماهى مع السؤال الواحد المعمم.
بيد أن سؤال «دكتور بيوتي» في جوهره ينطوي على سؤالين، أوّلهما يخصّ السر فيما ثانيهما يطال الجمال. على أن السرّ إذا ما أباحه صاحبه وأفشى به لا يعود سراً، بل يغدو معلومة مهدورة، أو في أفضل الأحوال، نصيحة. لكن قهقهات الفتيات التي تعقب السؤال كفيلة بأن تمدّ السائل بمعلومة مجانية. سنفهم أن الضحكة السائلة التي تجعل الفك يكاد يلامس الأرض ماثلة في الإحساس بالفخر لا بالخجل، لأن السرّ هذا، كما قد أعلنت صاحبة الضحكة، منبعه الوالدان، وكل ما هو مأخوذ من الوالدين (رضي الله عنهما) ينتمي إلى سمات الفخر والعزّة. على هذا النحو، يفتح لنا السرّ بوابة الطريق إلى فهم (هذا) الجمال، وعندها لن نُفاجأ بالشبه الذي يصيبهنّ، فالجواب عند غالبيتهن واحد، لذا فالمسألة محلولة. لكن السرّ هذا سيحيلنا إلى لغزٍ مليء بالأسرار: إذا كنّ جميعهن يشبهن بعضهن والسبب في ذلك، أي السرّ، عائد إلى الوالدين، فهل يعقل أن يكنّ جميعهن من عائلة واحدة؟
ما يعنينا حقاً من خزانات الأسرار هذه هو مدى تجلّيها الدفين في حقولٍ أخرى كالسياسة والأنثروبولوجيا، ومدى تأصّل السياسة والأنثروبولوجيا في معايير الجمال وأنواعه. الانكشاف هذا، سيزيل اللثام عن السرّ ويفقده سريته. سيكشف لنا من أحكم القبضة عليه وجعله سراً. فإفصاحها بأن جمالها مردّه الله أو العائلة (و«الفيلرز») يشي يأن هذا الجمال موروث أو مُنزل، وفي الحالتين فهو قدرٌ مائز ومحطّ امتياز، أما مرمى هذا القول فمكشوف من ظاهره لا يختبئ في الثنايا، فيما قائلته تصبو إلى أن تكون ضحية أبطال روايات الحقبة الفيكتورية. وفي أكثر الأحوال تجريداً إنه الدماغ الذي انعجن بخميرة الإقطاعية، ذلك أن «جمالي من الله أو العائلة (و«الفيلرز»)» يعود بنا، تمام العودة، إلى سردية «الله، العائلة، الوطن»، فيما الأخير (الوطن/ وطننا) أيضاً هو حصيلة عمليات تجميل فاسدة.
إذاً ينفضح السرّ ونفهم معه علّة الجمال، لكن يظل هذا الجمال مختبئاً، على الرغم من زخرفته، وزينته، واحتفاء صاحبته به. ما هو جوهر هذا الجمال يا ترى؟ حسناً، ها أنت تدير التلفاز فترى مذيعة نشرات الأخبار تشبه مقدمة الأحوال الجوية، وكلتاهما تشبهان ضيفة الـ«توك شو» الخاصّة بـ«دكتور بيوتي» التي بدورها تشبه كثيراً تلك الممثلة التي نسيتُ اسمها. نتحدث عن: شفتين كبيرتين، الأنف المروّس، وبروفايل الوجه الطويل الذي يشبه شكل الحصان... إلى آخره، اذهب وتفحص بنفسك. إن كنت تخال أن المشهد يصيبه التكرار فأنتَ مخطئ، لأن المُكرِّر هو فاعلٌ يعي فعل تكراره ويتقصده عن سابق تصميم وإرادة. نحن أمام استنساخ أو انمساخ: في المجتمعات الإقطاعية ينتصر الواحد دائماً. والإقطاعية تحبّ أفلاطون، وأفلاطون يحب سقراط وفيتاغورس، وبناءً على نظرية الأعداد الخاصة بالأخير، جاء «الجميل» بوصفه التناسق والتناغم، لتولد بذلك الاستطيقيّة الأفلاطونية. ولأن أفلاطون سقراطيّ، فقد كان يعتقد أنه لا بدّ للجمال أن يحوز جمالاً أوليّاً، أي صورة مثلى مرجعية، حضورها يجعل من الأشياء التي نراها جميلةً، جميلةً. فلا عجب إذاً أن تكون الصورة الأولى، والحال هنا، هي الله أو العائلة. وعليه، نفهم أن ما هو جميل اليوم، والجمال عموماً، عائد إلى فكرة مجرّدة أو تصور، وباستطاعة بعض ضربات الإبر في الأوردة والقليل من حشو المعجون بالجلد تمثيل هذا التصور وتحقيقه. على هذا النحو، يصبح الجمال سبّاقاً على الجميلة، وبالأحرى، علينا جميعاً. فنموذج «الإنسان الأخير»، أو «الإنسانة الأخيرة» ولنا أن نضيف تاء التأنيث للضرورات، اعتاد النظر إلى الجمال باعتباره مانيكان مستقيماً صلباً كإله لا اعوجاج فيه ولا نبرة، يسحر الناظر إليه ويحوله إلى طبيعته هو. من هنا نستطيع الجزم، وببالغ السخرية، بأنه إذا لم تكن الفتاة من نسب «العائلة» التي تورث أبناءها مقوّمات هذا الجمال، وإذا كانت الفتاة/ الابنة عاجزة عن نفخ اللحم وطحن العظام لتتماهى حدّ الامحاء مع «الجميل» فلن تكون ضيفة «دكتور بيوتي».
تتسم السلالة التي ينتمي إليها هذا الدكتور، مثل كبيره الدكتور فوود المختص بتذوّق الطعام وتحضيره، أو أخيه الأصغر، حمودي علي، صاحب صفحة «beirut luxury» الذي يسأل المارة عن ثيابهم وأسعارها، بلوثةٍ تجعل الحياة ثقيلة غير محمولة. فدكتورنا الذي نكتب عنه هنا، وبعد سماعه اعتراف ضيفته بأنها خضعت لعمليات التجميل، يعود ويسألها إن كانت توافق على إجرائها العمليات أم ترفضها، وهذا يعد حدثاً، ومن شأنه أن يصنّف كقصة قصيرة تندرج في خانة ما يمكن أن يسمى بالـ«أدب الأخرق». والسلالة هذه تكبر كل يوم، فقد ولدت من رحم مشوّه ينجب مسوخاً -واستنساخها لا ينتهي- لقد انبثقت من العالم الافتراضي وأخذته بؤرة لها، وهي محمومة في التحضير لعشاء، والمدعوون كثر، بغية تفعيل تكاثرها.
عام 1995 أي بعد انتهاء الحرب الباردة بخمس سنوات، كانت التقنية تركب مقعد القطار السريع وعالم الإنترنت ينبلج، يومها نشر المنظّر الفرنسي بيير ليفي كتابه «ما هو الافتراضي» وكان أشبه بمانيفستو سريالي عن أيديولوجيا الافتراضي والخيال الشبق. سار ليفي في معادلة أن الممكن هو «حقيقيّ»، لا ينقصه سوى وجوده. الممكن «سيتحقق»، ولو كان معلقاً، فيما الافتراضي حقيقيّ أيضاً، لكنه يتعارض مع الفعلي. ذلك أن الفعليّ (دفع الافتراضي من خلال الفعل حتى يصبح موجوداً) يجيبه. اجترح ليفي مفهوم «الافترضان»، الذي ينافي مفهوم «التفعيل». إذا كان التفعيل منح الشيء واقعه الممكن وإنتاج صفات جديدة له وتحويل الأفكار، يغدو «الافترضان» ممارسة مقلوبة رأساً على عقب، بحيث تصبح مجموعة الإمكانات بديلةً عن الواقع الذي غالباً ما يكون لديه حل فعليّ لمسألةٍ تعنيه. «الافترضان» باختصار، هو تحول للوجود إلى نمط وجود آخر، في ارتقاء يقوم من الواقعي الفعلي إلى الافتراضي. إن «الافترضان» يتيح الانفكاك عن الزمان والمكان ليصبح الوجود، بالمعنى الأنطولوجي، قائماً على قاعدة «غير موجود هنا». ينظّر ليفي لـ«افترضان» الجسد، ويحلل وظائفه بناءً على ما فعلته التقنية به، ومدى قدراته «الافتراضية» (الإمكانات التي يمكن تحقيقها)، ونجاحه في هضم التحوّلات التي استقبلها من جرّاء تطور الطبّ وما إلى ذلك، ليصل ليفي إلى نتيجة لهذا «الافترضان» سمّاها بـ«الجسم التشعبي»؛ الذي استقبل كل أنواع التبادل (الدم، العقاقير، زرع الأعضاء...) وامتص هذه التحولات، ليصل في النهاية إلى حالة التوهّج. يقول ليفي: «يتكاثر الجسم حين يحكي نفسه افتراضياً. فنخلق لأنفسنا أجساماً افتراضية تغني عالمنا الحساس من دون أن نفرض الإحساس بالألم على أنفسنا. (...) جسمي الشخصي هو التفعيل المؤقت لجسم تشعبي ضخم وهجين واجتماعي وتفانٍ حيوي. يشبه الجسم المعاصر شعلة، وهو غالباً صغير ومعزول ومنفصل وجامد تقريباً. تراه في ما بعد يركض خارجاً عن ذاته ويصبح أقوى بفضل الرياضة والعقاقير، فيمر عبر قمر اصطناعي ويقذف بعض الأذرعة الافتراضية عالياً في السماء عبر شبكات الطب أو الاتصالات. يرتبط حينها بالجسم العام ويشتعل بحرارة الأجسام المشتعلة الأخرى ويلمع بضيائها....ثم يأتي يوم وينفصل فيه عن الجسم التشعبي وينطفئ».
إن نبوءة ليفي قد تحققت مثلما يبدو. فعدا عن تمثّل «الجميل» اليوم بناءً على تصور كامن في الأساس افتراضياً، ويحقق نفسه، أولاً وليس آخراً، في الحيّز الافتراضي، ها نحن نجده في الوصف أعلاه تحت مسمّى «الجسد التشعبي». صنّاع الاستطيقية الحديثة، أي السلالة المتشعبة والتي ينتسب إليها «دكتور بيوتي»، تفعلّ تكاثر «الإنسان الأخير»، وتحوّله عن طريق «الافترضان» إلى كائنٍ يجلس بجانبنا في المقهى يأخذ سيلفي بعد أن شدّ على شفتيه، محتذياً بشكل البطة.
إن «الجسد التشعبي» المعاصر هو محاكاة الجسم للمانيكان؛ البلاستيك يذوب في الوجه، والعقاقير تسيل في شرايين الدمّ، يستنسخ نفسه ويتكاثر، افتراضياً وفعلياً، فيمر علينا وعبرنا ويقذف ذراعيه على رقابنا ليميتنا خنقاً فقط بحجة أنه جميل.
سيفوت الأوان عندما نطلب من هذا الجسد أن ينطفئ.