من يلقي نظرة على المسار التاريخيّ أو الزمنيّ للعمارة، منذ العالم القديم حتى الزمن الراهن، يلاحظ أن التسميات أو الصفات التي أُلصِقَت بعمارة القرن الواحد والعشرين تبلغ أضعاف التسميات أو الأوصاف البسيطة التي تُطلَق على عمارة القرون السابقة كلّها مجتمعة. في قرن الفرجة هذا، والعالم سوبر ماركت ضخمة تُباع فيها مدن وهويات ومبانٍ وآثار، وفي الركن المخصص للعمارة داخل هذه السوق الهائلة، ثمة لافتات كبيرة للاستعراض: عمارة سائلة، عمارة ما بعد ما بعد حداثية، عمارة تفوقية، عمارة الطي، عمارة البارامترية، البنائية الجديدة، الإحيائية، المستجيبة، التفاعلية، البايوفليلية، البايوميمكري إلخ.. في هذه السوق، لا مكان مُتاحاً للمعماري ميس فان دير روه صاحب العبارة الشهيرة «القليل يعني الكثير» إذا عاملنا العبارة بحرفيتها. نحن في القرن الواحد والعشرين، في سوبر ماركت عالميّة، وما يميّزها هو شلل الاختيار والإقياء، والهراء. المكان المُتاح، سيكون بالطبع، للمعماري روبرت فنتوري كي يردّد فيه عبارته الشهيرة أيضاً «القليل يعني الملل».

من صفحة أعمال خرائية على الفايسبوك

ثمة آلاف الأطروحات حول العمارة، تعرّفها وتوضح الهدف منها وتضع صفات للمعماري، كما تربطها بعددٍ من الفنون والعلوم المختلفة، أو تسمّيها بأم الفنون، مثل أطروحة فرانك لويد رايت الذي يقول «من دون عمارة تخصنا، لا روح في حضارتنا». إلّا أنّ التعريف البسيط للعمارة، وهو الذي يعنينا من مجمل التعريفات، ذاك الذي وضعه إرنست بوردين، عبر تشخيصه الدافع الغريزي عند الإنسان للبناء، بغرض الالتجاء. إنّ العمارة، في هذا المعنى، هي ملجأ أو مأوى، وهي ما يتّصل بسؤال كافكاوي مُخيف: لماذا يبنون مثل هذه المدن الضخمة في حين أن ما يحتاجه المرء هي غرفة فحسب؟ وتبدو عبارة فنتوري مناسبة كجواب هذه المرّة: «لأنّ القليل يعني الملل».
يمكن القول إن العمارة منذ زمنٍ طويل انفصلت عن غريزة الالتجاء، ولا سيما عمارة «الباروك» و«الروكوكو»، ومن بعد، عمارة القرن العشرين والقرن الراهن. لم يعد للعمارة لغة ولا هوية. إذا كانت العمارة هي فعلاً بيت الوجود، كما يقول الألماني هايدغر عن اللغة، الأمر الذي يحيل إلى غريزة الالتجاء مجدداً، فتغدو العمارة اليوم هي العَدَم. وكلام هايدغر في كتابه «الشعر - اللغة - الفكر» يوافق أطروحة بوردين عن غريزة الالتجاء: «نحن نبلغ ماهية السكن، كما يبدو، فقط عن طريق البناء، بحيث أن هذا الأخير، أي البناء، يمتلك الأول، أي السكن بكونه غايةً له [...] حيث يعني فعل السكن ببساطة أننا نحصل فيها على الملجأ».
إذا كانت العمارة هي البناء، فإن الفعل «يبني» (buan)، في اللغة الإنكليزية القديمة واللغة الألمانية العالية، يعني «يسكن». وهو يشير إلى الأفعال: يظلّ، ويبقى في مكانٍ ما. يشرح هايدغر أن عبارتي (ich bin) أنا أكون، و(du bist) أنت تكون، تعنيان في الحقيقة «أنا أسكن، وأنت تسكن»، أي الطريقة التي أكون عليها أنا، وتكون عليها أنت، أي إن الكيفية التي نكون بها نحن البشر على الأرض هي: «(Buan) أي «السكن» في حين أن المعنى الحقيقي لـ«أن يبني»، والذي يرادف أن «يسكن»، صار في طيّ النسيان».
يبدو برج إيفل الواقف في قلب العاصمة الفرنسية بكلّ لا جدواه، دليلاً على طرح هايدغر، ولا سيما أنّ المثقفين الـ47 الذين وقعوا رسالة مفتوحة احتجاجاً على هذا «الخازوق» الضخم، وبينهم إميل زولا، وغي دو موباسان (كان يتناول طعامه تحت البرج ويقول: «إنه المكان الوحيد في باريس الذي يمكنني تناول الطعام فيه من دون رؤية ذلك البرج القبيح») وابن ألكسندر دوماس، إذ قالوا: «نحن الكتاب والرسامون والنحاتون والمهندسون المعماريون من عشاق جمال باريس المعرّض للتهديد؛ جئنا باسم الذوق الفرنسي للاحتجاج بكل قوتنا وبكل سخطنا وبكل التقدير للفن والتاريخ الفرنسيين ضد تشييد برج إيفل الوحشي وعديم الجدوى في قلب عاصمتنا». بعيداً عن سبب احتجاج هؤلاء، في أن باريس ابتعدت عن الفن الباروكي الذي يحبونه، ما يعنينا حقاً هو الاحتجاج في حدّ ذاته على لا جدوى البناء.
وإلى جانب «خازوق» إيفل، فثمة آلاف الأشياء الواقفة في هذه السوبر ماركت العالمية تحت اسم العمارة التي لا جدوى منها، إذ فيها قباحة وقماءة فوق الوصف. إنها أعمال ساذجة، تافهة، مثل أبراج إيلود الباريسية، وبرج الرصد في حديقة الألعاب الأولمبية في لندن، أو الساحة الفيدرالية في ميلبورن بأستراليا، ومتحف الروك آند رول في أوهايو، ومتحف EMP، ومتجر سيلفريدجز، ذلك غير ناطحات السحاب، والخوازيق، والصروح، والتماثيل، والتذكارات، والبيوت الراقصة والحجرية والمقلوبة والمعوجة والمجنونة، وبيوت الجدار والمرحاض والصخرة والحذاء والبرميل، إضافة إلى السِلال، والمكعبات، والمكتبات، والأجنحة، والأطباق الطائرة، والسيوف، والقصور، والبنوك والفنادق والمتاحف... كلها أعمال ساذجة غير صالحة للسكن تقف في السوق القائم على التفاهة والاستعراض والبذخ والفجاجة، تقوم عليه ويقوم عليها. إن المباني سالفة الذكر، ومنها بيوت يجب أن تكون الغاية منها «السكن» كلّها استعراضيّة، مصفوفة في المكان المخصص للعمارة في هذه السوق، لكنها ليست معروضة للبيع إنما للفرجة.
تصطاد، عادةً، صفحة على الفايسبوك، اسمها «أعمال خرائية». تنقل لنا صوراً لتصاميم معمارية ولصروحٍ ومبانٍ موجودة في العالم العربي وهي لا تختلف عن برج إيفل سوى أنها تفوقه قباحة. والصفحة، كما يبيّن صاحبها تهدف إلى: «رصد ظاهرة المصممين الخرا اللي مسودين عيشتنا وعيشة اللي جابونا». الصفحة تعرض صروحاً، وتذكارات، ومباني، وأبراجاً (خوازيق) وتماثيل في مصر، من دون أن تقول عنها شيئاً، لأنّ العنوان كافٍ للتعبير عمّا هو معروض. تصطاد كلّ ذلك عبر الضحك منه، وبسخرية ممزوجة بوجع الرؤية والإعياء من فرط فجاجتها و«خرائيتها»، وقربها من الموت لا من الحياة.
إنّ السؤال الجدير بالطرح، لماذا وصلت العمارة إلى ما وصلت إليه متصلٌ تماماً بسؤال متى بدأت العمارة. يجيب ويل ديورانت في روايته لنشأة الحضارة أنّ العمارة بدأت، فناً، حين فكّر رجل أو امرأة للمرة الأولى أن تقيم بناءً للمظهر والنفع معاً: وربما اتجه الإنسان بهذه الرغبة في خلع الجمال والفخامة على البناء، إلى المقابر، قبل أن يتّجه بها إلى الدور. بينما تطوّر العمود التذكاري الذي أُقيم عند المقبرة إلى فن التماثيل، فقد تطور القبر نفسه إلى المعبد.
منذ فكّر رجل أو امرأة للمرة الأولى في إقامة بناء للمظهر والنفع، إلى مبنى بوتلاند ما بعد الحداثي، ثم عشرات الأبنية الحداثية، وما بعد الحداثية وما بعد ما بعد الحداثية، تحوّل التفكير إلى غاية، ما أفقد العمارة لغتها، وهويتها، وخصوصيتها، وحوّلها إلى أداة للاستعراض، إلى التسليع، وإلى كومة أحجار أو زجاج أو مواد أخرى، توضع كيفما اتفق، حتى أصبحت عمارة عفاريت.
يجيب آلان دو بوتون في كتابه «عمارة السعادة» على سؤال: كيف تجعلنا العمارة نشعر بالسعادة؟
في أغلب البلدان العربية، ثمة خبر صحافي قصير كافٍ أن يكون رداً وتقويضاً لكتاب بوتون: «تسبّبت أحجار متساقطة من عمارة السعادة بخسائر [...] وحادث تساقط الحجارة من عمارة السعادة ليس الأول [...] يُشار إلى أنّ عمارة السعادة باتت تشكّل معلمة من المعالم العمرانية».
ليس من الضروري أن يكون المعنى لـ «أن يبني» هو «أن يسكن»، لكن على الأقل، يجب أن يصدر عن هذا الفعل ما هو «غير خرائي»، وإلا مصيره الزج في الصفحة المذكورة أعلاه.