منذ أن خفتَ وهجُ الصراعات الطبقية، تراجعت إلى الخلف الأيديولوجيات التي تؤطّر فهمها للعالم وما يجري له بمفاهيمها ومصطلحاتها- والتي غالباً ما ترتكز على نهج الصراع الطبقي- مفسحة بالمجال لممارسات وظواهر تتبدّى وكأنّها عفوية، حرّة، وغير خاضعة لمفاهيم مركزيّة تحرّكها في الخفاء. فلا غرابة والحالة هذه إذن، من أن تبرز أخيراً على وسائل التواصل الاجتماعي، بعضٌ من هذه السلوكيات التي تقدّم نفسها بوصفها أمراً طبيعياً بعيداً عن أيّ إطار سياسي وفكري ونظري، مكتفية بالوضع العام السائد، القائم على أثر خلوّ الساحة الفكرية والثقافية والسياسية من أيّ طرحٍ بديل جادّ وفعّال. وهذا من شأنه أنْ يفسّر العديد من الممارسات اليومية الجوفاء التي تتمظهر بنمط عيش غير ذي ثقلٍ نظريّ في الظاهر، رغم أنها تنهل من معين أيديولوجي هدّار فرضه عصر العولمة ثمّ ألبسَه «طاقية الإخفاء».إن التشريح الموضوعي لظاهرة السؤال الرائج عن الكيفية التي يكدّس من خلالها المرء أمواله فيبتاع ويشتري «الرقي المادي» الذي يُظهر نفسه به حسب حجم ثروته، أو لظاهرة السقوط الحرّ بالمظلات للترشح لمقعد نيابيّ يظنُّ الطامح إليه أنه يكفي لبعض الأوراق الخضراء أن تجلسَه عليه، ما هي إلا ملامح أو مؤشرات تنضح بالظاهر بخطاب إنشائي يدّعي أنه لا يقولُ شيئاً إلا أنه في الصميم يقول الكثير عن الأيديولوجيّ الذي يسيرُ في ركابه.
للظواهر دوماً مهما عظُمت أو صَغُرَت، أُطرٌ وقواعد تتحكّم في ديناميكيتها داخل المجتمعات. تتجلى تلك القواعد عبر التلازم الذي يحصل بين المفاهيم التي تعبّر عنها وتضبطها وبين السلوك الذي يغرف بشكل فعلي من الوعاء الفكري الأيديولوجي الذي ينتمي إليه. فحتّى لو ادّعت بعض الظواهر ترفعها عن تبنّي أي ممارسة سياسية وثقافية أو خطاب فكري أيديولوجي وترجمت نفسها بمضامين خالية من المقاصد المباشرة، إلا أنها في نهاية الأمر، قصدت أو لم تقصد، تعبر حسب مهدي عامل، عن موقف ينزلق بالضرورة إلى مواقع الفكر المسيطِر.

باركود السياسة: «روحوا لعندن»
بلؤمٍ وتفاهة، ولغة عربية مكسّرة، وبنرجسيّة فارغة من الطرح السياسي الجدّي، يطلع لنا من قمقمهِ المُدَوْلَر ومن ضجَرِه الثريِّ البارز، ملكٌ «رولودكسيّ» السذاجة، ليلومَ الشعبَ على عدم انتخابه نائباً، أو بطموحاته الشخصية، يلومهم على عدم تتويجه ملكاً تحت قبّة البرلمان. لمقولته الشهيرة «روحوا لعندن» وقعَ الندم في نفوس متلقّيها، وكأنه يقول لنا، نحن الذين لم ننتخبه، إننا نستحقّ انهيارنا الحاصل، وإننا نستحقّ سلطة سياسية كهذه.
التعريف الاجتماعي لما يُسمّى «النكاية» هو ممارسة سلوكيات سلبيّة متعمّدة تستهدفُ أشخاصاً محدّدين من أجل مضايقتهم وإزعاجهم. من الجهل في عملية الاستقطاب السياسي أن يتعمّد الإنسان ممارسة «النكاية» والفوقيّة. فأن يظهر على وسائل التواصل الاجتماعي ذلك الكائن الـ«رولودكسيّ» بحِزَمٍ من الدولارات في ظلّ واقع اقتصادي واجتماعي بائس ومنهار ليحمّل ذنب فشله السياسي للجماهير التي لم تنتخبه، فهذا سلوك لا يمكن تصنيفه إلا ضمن خانة «هابلها وماشي». الركيزة الأولى في أيّة ممارسة سياسية هي النفس الطويل والتراكم، لا الحنق المباشر والتحدّي غير السويان. هل علينا إذن، أمام مشهد رُزَمِ الدولارات أن نشعر بالحسرة لأنّنا كنا تقليديين في ممارسة خيارنا الانتخابيّ؟ وكأنّ المال هنا هو الهوية السياسية الوحيدة لصاحبه وشعارُه الموشوم فوق برنامجه «الأخضر».
في السبعينيات من القرن الماضي، دخل الباركود إلى عملية الإنتاج. والباركود ببساطة، هو الهوية الخاصّة بالمنتج، من خلالها بات يُعرف اسم السلعة وقيمتها وربما كمّيتها. لذا هو مفهوم اقتصادي ليبرالي بحت، شكّل لحظة ظهوره تنافساً بين المنتجات والمنتجين، فكان بشكلٍ أو بآخر «إصبعاً» من ضمن أصابع «اليد الخفية» للسوق الحرّة. تعالج الروائية المجرية كريستينا توت ظاهرة الباركود الغربية التي نشأت في كنف المجتمعات الشيوعية، فتعتبر أن تلك الخطوط السوداء، الدقيقة والمرقّمة، هي في نهاية الأمر، أشبه بشبكة عنكبوتية تسلّع كل شيء في الحياة، وتحظى بهيبة الغموض والتفرّد ذو الطابع الغربي كذلك. تقول توت: «كان الباركود سمة من سمات البضائع التي تصل من الغرب، فقد أعطى هذا الباركود قيمةً حتّى لأكثر الأغراض تفاهةً» وأصبح برمزيته معياراً لتلك «الجنّة الواقعة على الجانب الغربيّ من الأرض، حيث يُعتبر كل شيء فيه متاحاً وكلّ شخص فيه جميلاً وسعيداً وراقياً ودائم الشباب. أو على الأقلّ هذا ما كنّا نعتقده كمراهقين».
في العمق، يخضع النمط الذي يتّبعه كينغ رولودكس للنمط ذاته التي تتحدّث عنه توت في مجموعة قصصها المتنوعة والمعنونة صراحةً بـ«الباركود». رفاهية يومية، تسوّق، سيارات، حزم ورزم خضراء، ماركات للدعاية والإعلان الخ... كل الممارسات الـ«رولودكسية» تقع في بوتقة الباركود السحريّ الذي يعطيها قيمتها المادّية. ورولودكس، بدوره، حاول أن يعطي قيمة للعمل السياسي المبتور، مستعيناً بأمواله، في الانتخابات الأخيرة.
إبّان الحرب الباردة كان امتلاك السلع الغربية ذات الباركود، في العالم الاشتراكي صعباً واستثنائياً، وبالتالي اقتصر امتلاكها فقط على رجال السلطة والنخبة من الأطباء والعلماء، لذلك فالسلع التي كانت تحمل وصم الباركود كانت تُعتبر بمثابة الأُبّهة، والجاذبية، والتفاخر الاجتماعي، وأداة لإثارة غيرة الآخرين، حدّ أن بعضهم فضل رديئها عن السلع محلّية الصنع، وهذا هو بالضبط، ما توهّمه رولودكس عندما ترشّح إلى الانتخابات النيابية. الأخير قد ارتأى أن نمط حياته هو سلعة ذات باركود فخم، تجذب المقترعين نحوه لينصّبوه جاهَهم السياسي والثقافي، وبالتالي، لا يمكن فهم عبارته «روحوا لعندن» بعد خسارته للمقعد النيابي، إلا كدعوة للعودة إلى الفقر والخراب، لأنّنا باعتقاده، هذا ما نستحقُّه، حتى إننا لا نستحقُّ منه أن يقول لنا مثلاً «تعوا لإندي» بعد اليوم.
على هذا النحو، بات المنطق الطبقي الضمني للسلعة مفهوماً من جهة، ولتسليع خيارات الفرد السياسية من جهة ثانية. فسردية «روحوا لعندن» تشير في مضمونها حسب قائلها، لخسارتنا ليس فقط إمكانية التغيير، إنما كذلك لنمط حياة الحلم الأميركي، أو لتلك الجنّة التي تحدّثت عنها توت، أو ربّما لخسارتنا الفرصة في أنْ يوشَم على أجسامنا باركود يسلّعنا ونحن مُسمَّرين داخل واجهات الوجود ومعلقة علينا بطاقة تعريف: «احذروا التقليد أو ظاهرُ الأشياء في الواجهة لا يظهر حقيقتها».

عن الوعي القصدي: ماذا تفعل لتعيش؟ (what do you do for living؟)
سيارات فارهة، ساعات لمّاعة، ضحكات ناصعة مكلفة، التواءٌ حنكيٌّ يلائم الحالة الاجتماعية، أمكنة فخمة، ووسائل تواصل اجتماعية ترصد «كرماً غير أخلاقيّ» هذه كلُّها العوامل المحفّزة للسؤال الطبقي الرائج حالياً على إنستغرام: «ماذا تفعل لتعيش؟». والمستهدفون معروفون من ملامحهم الواضحة، سكان عصرٍ يتباهى أفرادُه بثقافة عيش فخمة يرتاحون في كنفها. هم مبهورون بجمالية العولمة، يدورون في فلك الاستهلاك المفرط، ويعبّرون عن أيديولوجيتهم بانتمائهم إلى العلامة والماركة.
بيد أننا أحياناً نسأل لا لنحصل على جواب بل لإبراز صاحب الجواب. والفرق هنا جوهريُّ. فأن تسأل لتُجاب فهذا سلوكٌ مطلوب، إنّما أن تسأل فقط لتُبرِزَ فضيلة «الكرم» والحالة الاجتماعية لشخص ما، فهذا تصرّفٌ مقيت. وبالعودة إلى العولمة، يمكن الجزم أنّها لم تستطع تسليع القيم والعلاقات الإنسانية فحسب، إنما كان لها القدرة في جعل ثقافة الاستهلاك والفرجة مقولات كونيّة في الثقافة الجديدة. فالسؤال بداعي الإبراز، هو الترجمة الفعلية اليوم لمجتمع الفرجة أو الاستعراض الذي نقده المفكر الفرنسي غي ديبور. الأخير يرى أن آفة المجتمع الصناعي الاستعراضي تكمن في إبراز المرء لنفسه باعتباره الصورة المثلى التي يجب أن تنعكس في ذهن الآخرين. فهو إذاً يعيش في الآخر، ولا يعيش لنفسه ولأجل نفسه. ليست الصورة التي يحبّ إبراز نفسه من خلالها هي صورة لتطور فكريٍّ ما، إنها أولاً وأخيراً صورة استعراضية مادّية مكوّنة من سلع تزيّنه، وتؤنّقه وترتقي به ليكون نمط حياة استهلاكي بالنسبة إلى الآخرين حيث لم يعد لزاماً عليه أن يغطّي جسده بل بأن يجعل جسده «رسولاً». من هنا، تصبح علاقة الفرد بنفسه أشبه بعلاقة الأسهم في البورصة. لقد جادل دولوز وغاتاري في هذا الصدد أن الرغبة المحبوسة في بؤس الإنسان يجب توجيهها نحو «الخوف من النقص»، أن تكون كاملاً ومالكاً، أن تصبحَ مادّةً دسمةً، هذا ما تريده العولمة منك بثقافتها الاستهلاكية المتطرّفة. لذلك فالغرابة ليست في السؤال ذاته «ماذا تفعل لتعيش؟»، إنّما في ما يستهدفه السائل. بالحالة هذه، إن سؤالاً كهذا يصبح، في جوهره كم تستهلك لتعيش، وكم تبلغ الفجوة الطبقية بينك وبين الآخرين الذين لن ينالوا أبداً، في ظلّ ثقافة عولمية منتشرة، فرصة السؤال والإجابة. المسألة بسيطة، وهي أن الأشياء أفرغت من غايتها الأصلية، وأصبح اقتناء السلع مرتبطاً بالماهية الأنطولوجية الجديدة للإنسان المستهلك، والذي خير من عبّر عنها إريك فروم حينما قال: «أنا موجود بقدر ما أملك وأستهلك».
هنا تظهر من جديد العلاقة التي تحدّث عنها مهدي عامل، بين الفكر والعمل السياسي والثقافي. تشير روزي بريدوتي في كتابها «ما بعد الإنسان» إلى حقيقة مأساوية حصلت في أفغانستان حيث بدأ السكان هناك من فرط جوعهم في أكل الحشائش من الطريق، لأن الاحتلال الأميركي، كعادته، تفنّن في ضروب الحصار والمجاعة، في حين كانت الأبقار في بريطانيا وفرنسا وأميركا و اليابان تُغذّى «بالعلف الحيواني ذي اللحم المكثّف» ليحسّنوا من إنتاجية أبقارهم، وبالتالي ليعززوا من أرباحهم. فأنت إن ذهبت لهؤلاء الجائعين وسألت سؤالاً «ماذا تفعل لتعيش؟» بغية توثيق وإبراز وحشية الاحتلال الأميركي، تكون والحالة هذه، مُمارِساً لعمل سياسيٍّ وثقافي وفكريّ جادّ وحقيقي، وستكون هذه الممارسة على النقيض تماماً في حال ذهبتَ لولاية لاس فيغاس مثلاً أو لدبيّ أو الزيتونة باي في لبنان لتسأل الأثرياء هناك هذا السؤال. «ماذا تفعل لتعيش؟» سؤال ليس بالبراءة هذه طالما أنه مُحمّل ضمنيّاً بمفاهيم وقيم أنشأتها العولمة، هو سؤالٌ ينطق بلسان «مواقع الفكر البرجوازي المسيطر» ويتبنّى أفكارهم وأنماط معيشتهم.

عنِ الاحتفاظ بالعبوات الفارغة:
مأساتنا تكمن في أنّنا لا ننتج ما نستهلك. كل شيءٍ عندنا مُعدّ وجاهز فوراً للاستخدام، الأفكار والممارسات والمنتوجات والسلع والمفاهيم كلها معروضة وتنتظر اقتناءها واستهلاكها إلى حد أن أصبحت كذلك كل العلاقات الإنسانية خاضعة لنمطٍ معياريّ واحد وهو المنفعة. والطامة الكبرى هي أننا نستنسخُ واقعنا عن واقعٍ آخر لا يشبهنا، ونترفَّه ببقاياه من كل شيء. فما سلف من الحديث عن الظواهر تلك، عبّرت عنه كريستينا توت بأبلغَ ما يمكن: «لقد رصّ خالي عُلبَ الجعة الفارغة فوق دولاب المطبخ من ماركة «هاينكن» لأنّها قد ظَفِرَتْ بشيء من ذلك العالم المثير الذي كان من الصعب الوصول إليه والذي تمضي في شوارعه الممتلئة بالإعلاناتِ الملوّنةِ، نساءٌ ذوات روائحٍ عَطِرةٍ وسيارات طنّانة».
جوهر المسألة هنا ليس فقط في مسألة انبهارنا الغرائبيّ بالغرب على ما ينتجه، إنّما بالوقت عينه هو في انبهارنا غير المبرر بقدرة الغرب وحده على الإنتاج النموذجيّ الفريد. وكأنّ للجمالية والقدرة هنا بُعداً واحداً منه يتسرّب للعالم كلّ مقوّمات البناء والتقدّم والحضارة. ولكن هناك رأيٌ أكثر تقدّماً ويطرح وجهةَ نظرٍ أكثر صوابية وواقعيّةً تستند إلى ما يمكن تسميتُه بـ«الانبهار المشروط». يرتكز الرأي هذا باختصار على «الانبهار بجماليات أنتجها الغرب ولا يمكن فكفكتُه من دون سلبه إيّاها..»، والتعامل معها بوصفها جزءاً جميلاً من كُلٍّ أجمل أو بالأحرى اعتبارها جمالاً غير صافٍ.. وعملية السلب تتطلّب بالضرورة تفكيكاً ما، بعكس الاستنساخ والتأثّر الأعمى اللذين يجذّران «الهيمنات الواحدة»؛ الهيمنات السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية ككمّ، والمنعوتة كلّها ب«الغربيّة» كنوع.
لذا، ليست الـ«هاينكن» هنا برمزيتها مجرّد خمر حانة إنّما هي بما تمثّلُه للآخر( بغرائبيّتها وغربيتها) تصبح مثل الدولار والقوة الناعمة والترويج الإعلامي: مفهومٌ أيديولوجيّ قائمٌ بذاته يتطابق مع ما أسلفنا من ظواهر.