شهد عام 2019 أحد أهم مواسم كرة القدم الإنكليزية. وقتها كانت المنافسة محتدمة بين كل من مانشيستر سيتي وليفربول اللذين كانا يتصارعان بشدّة من أجل تحقيق لقب الدوري. عقب فترة الاستراحة التي تفصل ذهاب الدوري عن إيابه، سألت الصحافة مدرب فريق مانشيستر سيتي، الإسباني بيب غوارديولا، عن مخططاته، فأجابهم بأنه اشترى مكتبة كلفته كثيراً، إلا أنه لا ينعم بالوقت الكافي للقراءة، فخطط وطريقة لعب يورغن كلوب (مدرب ليفربول) استحوذت على عقله. من يتابع كرة القدم التي يقدمها بيب غوارديولا على مدار السنين لن يستغرب اللقب المعطى له: فيلسوف كرة القدم. سنرى جوهر فلسفته في هذا المقال.
(تصميم: فرانسوا الدويهي)

يعدّ جاك دريدا من أهم فلاسفة التفكيكية، وأهمّ مُنظّريها. فقد بلغ معه التّفكيك مستويات من الفهم، سواء النّص أو اللغة أو الأخلاق، وقراءة المنطوق وفهم النصوص المكتوبة. ويَعْتَدُّ دريدا بمقولة: «لا شيء خارج النّص». لقد اكتشف دريدا أهم المصطلحات التي تعينه على فهم علاقات النص وترابطه، سواء الكلمة أو الدلالة، بعدما اخترع مصطلحاً تقنياً أطلق عليه «la différance»، وفيها استبدل حرف «e» بحرف «a» من كلمة «différence» التي تعني الاختلاف، لينتقل معنى مصطلح (la différence) من الاختلاف، إلى الإرجاء والتأجيل والاختلاف («la différance»). وهذا يحيلنا إلى فهم ما يرمي إليه دريدا، حيث يعتبر أن حدود الجملة تحيل إلى معنى. ولكن إذا أضفنا كلمات وجملاً أخرى إلى الجملة الأولى، فمن المنطقي أن تُضاف دلالات أخرى للمعنى الأول، فيتأجل المعنى لمعنى آخر يكون أوسع عندها. والأهم أن ما يرمي إليه الفيلسوف الفرنسي دريدا هو تقويض الأحادية، أي الفهم الواحد المنغلق على تفسير صاحبه، وتهميشها ميتافيزيقياً بمعنى؛ فتح حدود النص وكسر سلطة «المرجع» ليكون المعنى والفهم مرهونين للتأويل.
من هذا المنطلق، يمكننا فهم ما يصنعه غوارديولا حالياً في الملاعب المستديرة. فمصطلح دريدا «la différance» أي الإرجاء والتأجيل والاختلاف، هو عملية خلخلة وتصدّع للمعنى الأحادي وإعادة بعث للأثر (les traces)، وما يصاحب النص من آثار هامشية تدخل في علاقات مع النص وتصاحبه بدون أن تستحوذ على الصدارة. هذه العملية تعتمد على الإرجاء والتفكيك للعلامة البارزة، أي الكلمة الواحدة، إلى سلسلة من الكلمات الأخرى المترابطة، فيُعَاد النّظر فيها على ما بينها من توزيع وتسلسل وترابط وتباين، ليُتْرَكَ المجال للهوامش كي تبرز وتطفو على ركح النصوص.
في مقاربة مغرية مع غوارديولا الذي يشبه جاك دريدا كثيراً، أو كأنه يلعب معه في ملعبه كرأس حربة، فقد صاغ غوارديولا الإرجاء والتأجيل («la différance») بطريقة مذهلة، وكأنه قام بإسقاط للنظرية من حقل الفلسفة إلى كرة القدم، التي أصبحت في المقام الأول جمعاً للتقنية والأفكار معاً. فغوارديولا ذاع صيته كأبرز مطوّري كرة القدم في العالم، بوضعه للخطط ولاستراتيجيات اللعب، وقد لفت بها انتباه أبسط مشاهد لما يقوم به.
لم يكن غوارديولا كلاسيكياً، فقد وضع استراتيجية تقتضي تقسيم الملعب باعتباره المركز أولاً، وهنا تقويض واضح للكلاسيكية والسلطة الأولى في وضع الخطط التكتيكية. فقد قسم غوارديولا الملعب إلى 18رقعة/منطقة وكأنه يعيد تفكيك المنطق الأول في كرة القدم. ثم، داخل كل فريق يدربه غوارديولا، يكون اللاعب أشبه بدمية الحصان في لعبة الشطرنج. يضع غوارديولا اللاعب في الرسم التكتيكي أولاً، ثم يوزّع البقية، مثلما يفعل مع اللاعب رودري أو اللاعب غوندوغان حالياً في فريق مانشيستر سيتي. اللاعب إذاً بمثابة العلامة التكتيكية، يُنظر إليه كأنه عقل غوارديولا في الملعب، فهو الذي يقوم بترتيب اللعب، والنهج الفني في المباراة؛ إنه الحصان في رقعة الشطرنج.
واللافت في غوارديولا خلخلة وظيفة المركز لمصلحة الدور. فغوارديولا يعتبر أن الدور طغى على المركز. لذلك، فقد اعتمد على الدور الوهمي لنجد في تشكيلة فريقه الظهير الوهمي والمهاجم الوهمي. ولكن لم يكن يتوقع أحد أن يخلق غوارديولا وسط ميدان وهمي ومتعدد، ولكن هذا ما فعله مع اللاعب جون ستونز. والأخير يمكن اعتباره العقل الثاني لغوارديولا، فجون ستونز هو تأجيل المعنى الثاني بلغة التفكيك. التأجيل الذي صنعه غوارديولا، هو إضافة صفة الوهمي للمركز، حيث تعتبر وظيفة أخرى مضافة إلى الوظيفة الأولى الأساسية للاعب. فمركز اللاعب الوهمي، في الرسم التكتيكي، هو نوع من التأجيل والاختلاف والإرجاء لمنظومة اللعب كفريق، وكلاعب في حدّ ذاته. هذه الإضافة لا تقيّد اللاعب، بل تضيف إليه خاصية التفكير في اللعبة، حيث الإضافة المعنوية، أي اعتباره كلاعب وهمي، تمنح كل لاعب ثنائية تفكير. فاللاعب في خطط واستراتيجيات اللعب الكلاسيكية اعتاد طلب الكرة فقط، ولكن مع غوارديولا، فقد باتت له خاصية التفكير بالكرة وبدون الكرة. هذه الثنائية تخلق فرص لعب ممكنة أكثر، وبلغة دريدا يتأجل المعنى دوماً لأن هناك إضافة للأحادية الدلالية المكتوبة والمنطوقة ما دام هناك دوماً معنى مختلف ومؤجل يحمل بطبيعة الحال دلالات تضيف إليه صورةً وبناءً وتصوّراً جديداً.
قد لا يصلح دوما إسقاط أفكار فلسفية على تقنية أو رياضة مثل كرة القدم، لكن لسنا في إجراء مقارنة علمية، أو عقد مفارقة، بل ملاحظة استنتاج بين فكرتين: واحدة فلسفية، وأخرى أفكار رياضية نشاهدها ونتابعها ونتحمس لها كل يوم، فوجب أن نستفيد من بعض العلوم والفلسفات في حياتنا اليومية لأن حركة الفكر لا تتوقف عند علم أو فكرة، بل قوتها في انتشارها، أو كما قال الجاحظ: «المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ».