منذ اللحظة التي يرنّ فيها جرس المنبّه حتى يحلّ موعد النوم، لا يتوانى أبطال الفرجة عن إغداقنا بصور وفيديوات تفشي بجغرافيا رحلاتهم، مقياس أحذيتهم، ماهية أطباقهم، وكمّ البخشيش الذي يتركونه وراءهم للنادل. نجوماً وأبطالاً، كتّاباً وفنانين، يجتمعون جميعهم في الترويج للبصلة باعتبارها أونصة ذهب. بائع البصلة الذي خال نفسه صائغ الذهب يحاجج بأن الدموع التي تخلف عملية تقطيع البصلة لا علاقة لها بغاز الكبريت، بل هي مفيدة للصحة وتساهم في خسارة الوزن. لا يضحك الوعي الزائف على نفسه فحسب، إنما يضحك على البشرية جمعاء في قدرته على تبرير ما لا يبرر.
(تصميم: فرانسوا الدويهي)

منذ لحظة الاستيقاظ حتى لحظة الإغفاء، لا تنخفض أصوات أبطال الفرجة وإنما تشتدّ، وتمتدّ، ولا تفنى قبل أن يصبح المتلقي مسكوناً بأصدائها. إسداء النصائح حول الحياة السعيدة لن نحسبه، سنتغاضى عن هلوسة المنجمين وترّهات اختصاصيي التنمية البشرية ونتفرغ لذكر هول الـ«بلينغ» الذائع. المفردة عصرية الآن، بل تكشف معنى العصر. هي ترادف الفُرجَة وتفوّقها تكثيفاً، وقد دخلت حديثاً (في سيارة فيراري) من المُعاش إلى القاموس وتترجم بـ: سيارات فخمة سريعة، حياة هوليوودية جامحة، عملة خضراء ذات ملمس ناعم ورائحة منعشة، والليل المجنون الذي تزيّنه الأجساد السيليكونية ويضيئه لمعان ماركات الثياب العالمية. هذه فضائل الفُرجَة التي على واحدنا الاحتذاء بها وإلا هدده الطرد من المشهد.
سيجدونك حتماً، مهما حاولت الاختفاء فلن تنجح، العالم قرية صغيرة والناس تعرف بعضها. باتوا مزروعين في خلاياك، انتهكوا حواسّك ودخلوا فيكَ منذ لقاح الكورونا. هم يصغون إلى همساتك، يعلمون من تحبّ وماذا تتكلم عمّن تكره؛ هاتفك المحمول الذي تطلّ منه إلى العالم هو قبرٌ مفتوح يعرض جثة طازجة جاهزة للتنكيل. إذا كنت لا تريد إرهاق نفسك بالتفكير، فاسمع كلمتهم ووافق على الدعوة. أبطال الفرجة منهمكون في حثّنا على النهوض وفعل «شيء» بأسرع ما يمكن، لأن الاستلقاء على الأريكة، كما يزعمون، مضرّ ويسبب الكآبة باستثناء حالةٍ واحدة: إن كان هذا الاستلقاء مصحوباً بأكياس «تشيبس» وصناديق مقلية من الـ«برغر كينغ». يبشروننا بالاستهلاك المفرط، التحلّي بالنهم وممارسة النهش، الجنون بالتملّك ولو كانت نتيجته بيع الأعضاء للحصول على الحياة الرغيدة من ضمن بشارتهم أيضاً. لا تأخذ فعل الأمر الصادر عن «افعل شيئاً» على محمل الجدّ، فقط توقف عند الحماسة المضمرة في عبارة «بأسرع ما يمكن». هو زيف القبض على اللحظة التي يسمح بتشويهها، (وتسأل لماذا الحاضر بهذه الرداءة؟) ذلك أن السرعة تتطلّب علكَ هذه اللحظة، ومضغها ومن ثمّ رميها. وفي هذا انتقام صارخ من عدم القدرة (البشرية) على الخلود، وعليهِ، هي الحقيقة الموجعة بأن الموت أسرع من انعكاس بريق المجوهرات، ما يعني أن الفُرجة أيضاً تنطفئ. لذلك تصبح الكاميرا المصوّبة على الأحذية، وقطع الكيك، وزجاجات الشامبانيا (في حفلات وديع الشيخ) منشغلة بتأبيد هذه اللحظة، في جعلها غير منسيّة، لأن أبطال الفرجة يبحثون عن خلودهم في الصور.
يقدّم الاستعراض نفسه بوصفه حياة متلألئة مشعّة يجسّد وعود الأبدية بطرفة عين، فيما أبطاله هم أنبياء المعبد وآلهته. مثلما هي الحال مع المسرح الاحتفالي حيث ما إن يحقق البطل دعوته حتى يبدأ بالتصفيق لنفسه؛ في مجتمع الفرجة، ينصهر البطل مع الجمهور والكلّ ينشغل بالتصفيق. ينصهر الصوت مع الصورة أيضاً، ويصبح المشهد برمته مكشوفاً. الوقت لا يسمح بالتذمر ولا بالاعتراف بأن الجهاز العصبي يكاد يتلف جرّاء تلقفه المضني هذا، فحضارة اليوم تتطلّع نحو القمر؛ هي لا تعرف الإجهاد، هي تسير على كبسة زر.
ومن بين الأزرار الكثيرة أمامك، اضغط على هذا الزر: www.al-akhbar.com\innama لقراءة العدد كاملاً، نحن لا نعرف إذا كان عطارد كوكباً أو نوعاً من أنواع الزنجبيل. فما بالك بالقمر، لكننا، وكما ستقرأ، نعرف التفريق بين صائغ الذهب ومن يقطع البصلة، ونعرف كيف نزيل القشرة (القشور) وكيفية فرمها.