للعادي دوماً شيء يريد قوله. حتى قبل اختراع الكتابة والأبجديات، أراد الإنسان قول شيء ما يعبر عن وجوده، فرسم وحفر على الحائط. هذا ما تجده في كهوف «التميرا» و«لاسكو» و«دي لاس مانوس»، حيث رسم الإنسان حيوانات من الطبيعة التي رآها وواجهها. ولكني أرى القول الأول الذي يعبر عن وعي الشخص بذاته وتفرده في «كفوف» كهف «دي لاس مانوس» حيث طبع كل إنسان سكن هذا الكهف كفّه على الجدران.في البدء كان الجدار. نعم، هكذا يمكننا أن نتكلم عن التاريخ الإنساني. قبل أن يدوّن الإنسان تاريخه على الورق بأنواعه، كان، ولا يزال الجدار هو اللوح المُفضل للإنسان: الإنسان الهامشي بالأخص، الذي لا تتسع أوراق التاريخ الرسمية لسرديته الخاصة عن نفسه.
المثير للسخرية أن السلطة طالما حاولت انتزاع الجدار من الإنسان، منذ جدران المعابد الأثرية التي سجّلت سرديات السلطة إلى جدران الشارع ومطاردة فناني الغرافيتي في كل شبر. لكن الجدار كان وفياً ودوَّنَ الكلمة، هذا ما تشهد عليه بقايا سور برلين، أو حائط «ديترويت» بأمياله الثمانية الذي بنُي من أجل الفصل بين بيوت أصحاب البشرة السوداء وأصحاب البشرة البيضاء وبات حافلاً برسوماته التي تنتصر لحراك «السود». وفي واحدة من أعتى دكتاتوريات الشرق الأوسط والتي تعيد هندسة المجتمع وعسكرة مبانيه وإخراس حسها الجمالي، ما زالت هناك بعض من الرسومات تُزين جدران شارع «محمد محمود» بميدان التحرير، وربما تحت أحد الكباري تجد جداراً كُتب عليه «CC قاتل» أو «عرص».

(ميل بوخنر، «بلا،بلا، بلا»)

في خدمتي العسكرية حدثت العديد من المواقف التي أكدت لي كيف يمكن للكتابة على الجدران أن تشوش على صوت السلطة الرسمي، وكيف يمكن لها أن تكون مقلقة. في خدمتي العسكرية، تعلمت أن «هتاف الصامتين»، كما وصّف تلك الظاهرة عالم الاجتماع سيد عويس، له ضجيج ويترك دوياً. ففي إحدى المرات، وحينما انتهينا من عملنا الذي سُخرنا لإتمامه لما يربو على أسبوعين من تبييض الجدران وتوضيب الوحدة العسكرية لأنه سيتم تفتيشها من إحدى الهيئات، كتب أحد العساكر الذي لم نعرفه حتى اللحظة بقلم الحبر الأزرق الذي نستخدمه لنوقّع على تسلّم الخدمة\النبطشية: «ك* ام الميري». والميري تشمل كل ما يخص الحياة العسكرية وأحكامها. حينها جمعنا قائد الوحدة لتوبيخنا على ما قرأه، ولتحريضنا على كشف هوية الفاعل من أجل إخضاعه للعقوبات. لم نكن نعلم متى كُتبت تلك الجملة وأثناء خدمة من لكن تلك اللحظة، كانت من أكثر المواقف المغلّفة بشعور الحرية. ففي العسكرية، يكون التواطؤ حرية، حين يُنتظر منك أن تقول معلومة، حتى وإن كنت لا تعرفها وتسرّها في نفسك، وقتها تشعر بالحرية التي تفقدها منذ لحظة ارتدائك الأفرول الكاكي.
في خدمة أخرى، جاء ضابط المرور في برج الخدمة ليباغتني، وليتأكد من أنني لست نائماً في ذلك الفجر البارد. لو كنت نائماً لكان أرضى رغبته السادية في تكديري وعقابي، ولكنه وجدني أمسك مصحفاً في يدي أقرأ منه، وهو ما كان يسمح له بفرصة أيضاً لتوبيخي لأنه ليس من «الميري» أن تتعبّد في وقت خدمتك، فقال لي: «يعني هي حبكت تقرا القرآن في وقت خدمتك يا «دُفعة»؟» فابتسمت ولم أعطه جواباً. وبينما كان يؤكد حضوره من خلال توقيعه على دفتر المرور، لاحظ آيتين من القرآن كنت قد كتبتهما بالحبر على جدران البرج وقد كانتا: «ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها» و«ربّنا أخرجنا فإن عدنا فإنّا ظالمون». امتقع لونه وسأل منفعلاً بعض الشيء: «مين اللي كتبهم؟» أنكرت أنه أنا لأنني لم أحاول يوماً أن أبحث عن بطولة، ولأنني أردت استفزازه والتلذذ بهذا التصرف، فأمرني: «شخبط عليهم» فأجبت: «بس يافندم ده قرآن» فكان رده قاطعاً: «شخبط عليهم... ما هم الدواعش برضو بيقرأوا القرآن» وخرج من البرج متمتماً: «عساكر **** بتعرف ربنا وقت ما هي عايزة». كنت أعلم أن تكرار الحديث عن الظلم في الآيتين أكثر ما استفزّه، وقد كتبتهما لأستفزه، ولكن، لأقتل حبي للوطن الذي كفرت به قبل دخولي العسكرية من الأساس، ولأسلو قلب كل عسكري يقف خدمة في هذا البرج وأبشّره بمجيء يوم «الخروج»، ولم أمسح الآيات، فقد كانت تلك آخر أيامي وكنت أعلم أن دورة الخدمات لن تضعني تحت مرور هذا الضابط مرة أخرى قبل انتهاء خدمتي.
كما التمرد، تبدو السلوى هي أكثر ما يحرك الإنسان للكتابة على الجدار في فترة العسكرية، لقد كانت هناك جدران تحفل بمحادثات بين أشخاص لا يعرفون بعضهم، كلها تتحدث عن المُهلة الباقية لنهاية الخدمة، ولكنها في أكثر الأوقات ليست بريئة أو خالية من التنمر والاستفزاز، ولكن فيها من الرقة والحب والمواساة ما فيها. أذكر في فترة خدمتي الأولى في أحد الأبراج، كتب أحد العساكر كتابة يعود تاريخها إلى عام 2013 أي قبل عشر سنوات: «يارب هوِّن، هيجي اليوم اللي هكون خلصت فيه، ابقى ادعيلي متعرفش الدنيا هتكون عملت فيا إيه»، وبالعادة، فإن العساكر الذي يكتبون مثل هذه العبارات التي تهون أن يكتبوا أسماءهم وأسماء محافظاتهم، فذلك تاريخهم وتلك هويتهم، وهناك أيضاً من الكتابات التي يضع فيها العساكر أرقام هواتفهم ويخبرونك يا قارئ رسالة الجدار أن تتصل بهم في أي وقت للسؤال عنهم وإن لم تكن تعرفهم من أجل مواساتك وتسليتك في خدمتك.
حينما خرجت إلى العالم، أي إلى الجدران الخارجة عن نطاق جدران «الميري»، أعدت النظر والتأمل في فكرة الجدار ومفهومه. ففي الواقع لا تُمثّل الكتابة على الجدران في الشوارع مجرد تمرد على نظام الضبط الاجتماعي والنظام السياسي أياً كان فقط، ولكنها تلعب أدواراً أخرى، تراها أولاً في دور وظيفي يتعلق مثلاً في مجال «الإعلان والإشهار». فعلى الكثير من الجدران تجد هناك من يعلن كونه سباكاً أو نقّاشاً ويضع لك رقمه إن كنت تريد التواصل معه بشأن العمل. إن الجدران تكون في الكثير من المرات وسيلة إعلانية للكثير من مدرّسي الدروس الخاصة الذين يعرّفون بأنفسهم من خلال لوحات جدارية منمّقة، وجيدة الخط بحيث إنها لا تكلّف كثيراً مثلما يُكلف ثمن إعلان مطبوع أو مُروّج عبر وسائل البث، هكذا، تبدو الجدران للكثيرين من غير القادرين وسيلة للالتفاف على منطق «الماركتنج» الرأسمالي الحديث.
ولطالما حملت الجدران وجهاً عاطفياً وجنسانياً أيضاً. بإمكانك أن تصادف في الحمامات العمومية أرقام هواتف لشباب جاهزين للتعارف الجنسي المثلي. كانت تلك وسائل لالتقائهم وتعارفهم قبل عالم تطبيقات المواعدة التي اخترقتها كتائب المخبرين من الشرطة للإيقاع بهم، وفي قليل من الأحيان، تكون الجدران وسيلة لتعارف المغايرين جنسياً بأرقام شباب جاهزين للتعرف إلى الإناث. وتبرز الكتابات من تلك النوع في المستشفيات والمدارس والجامعات ومراكز الدروس الخصوصية. في المدارس خصوصاً وعلى جدرانها، ربما تجد رسالة حب كبرى كُتبت بـ«سبراي» من عاشق فحواها: «بحبك يا...» وقلب تخترقه السهام.
تعبر الكتابة على الجدران عن آلية دفاعية من الإنسان المقهور ضد المجهول، ضد المستقبل الذي لا يملك آليات للسيطرة عليه، أو خطط واضحة لمواكبته، لذلك تحفل الكثير من الجدران وخصوصاً في المحالّ، والحوانيت الشعبية بعبارات تحاول السيطرة على المجهول والتغلب على الخوف منه، فتنتشر عبارات مثل: «خليها ع الله\سترك يا رب\ معانا يا رب\ وما توفيقي إلا بالله\ يا ظالم لك يوم\ اللهم اكفني شر أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم\ الرب راعٍ فلا يعوزني شيء\ سلّم للرب طريقك\ إن مع العسر يسراً...» وإلى جانب تلك الكتابات ذات المضمون الديني، تجد كتابات من وحي الحكمة العملية تعبر عن الأمل، ربما لا يعرف كاتبها أنك من أجل أن تُثرى في عالم رأسمالي كذلك الذي نعيش تحتاج إلى صفقة فاوستية ولكنه مع ذلك لا يستسلم لذلك المنطق ويكتب تلك الجملة التي قرأتها على جدران إحدى ورش الإسكافيين صغيراً ولم تفارق عقلي: «السماء لا تُمطر ذهباً، فيا أيها الصنايعية، عليكم بالعمل».
أصبحت الكتابة على الجدران إزعاجاً، حين خرجت من الكهف إلى الحيز المديني، أي حين خرجت من فعل الإنسان في كهفه\دولته إلى الحيز المديني الذي تسيطر عليه سلطات تحول تقنين كل الظواهر أو مكافحتها. هنا أصبحت تلك الكتابة مُزعجة، خاصة حينما تحمل مضامين تتحدّى الأنساق السلطوية الراسخة. ترى المعمارية عبير سقسوق أنها لغة شكّلت معانيَ متعددة في المدينة يخضع فهمها لمنطق الثنائيات الضدية، فهي فن شارع أو تخريب، وسيلة تعبيرية أو ممارسة غير قانونية، سخيفة أو مؤثرة ومحرّضة، مزعجة أو جميلة، عمل فني أو إهمال وعبث بالممتلكات العامة، ويتحدث عالم الاجتماع الماركسي هنري لوفيفير عن «الحق في المدينة» تلك المدينة التي من حقنا أن نحلم بأن نعيش فيها على هوانا، ولكن من نحن أصلاً في نظر السلطة والمخططين العمرانيين؟ فالكثير يُنتزع منا ويعاد تخطيطه وفقاً لمبدأ التجميل والتطوير والقضاء على العشوائية، ولكن لا يمكن للحكومات أن تُسلبنا الجدران، لذلك هي كل «ما تبقّى لنا من المدينة»، ولذلك هي تحمل تواريخنا الصادقة، ما لم تطاولها أيدي السلطة التي تلطّخها بلون صامت أبيض، أو كاكي بلون الجراد والصحراء التي يحبها العساكر. هكذا يكون الصراع بين مجتمع يحكم بأمره على الجدار ويمارس مواطنيته، ويكون فاعلاً ضمن بيئته لا يكتفي بدور المُتلقي، وسلطة تستخدم قوة القانون للمحافظة على مفاهيم اجتماعية سلطوية.