أن أمارس السحر، أنقطع لأصل، أن أحرّك وأتلاعب بالأجواء والعناصر. أفكّك وأقطّع، أبني وأُزحلق، أُسحَرَ وأُستَلَب. أُسحَبُ من جفن عيني لنبع، لمعبد، لمحرقة، لثورة للجياع، أو محطة انطلاق فارغة من المراكب. في شدٍّ وجذبٍ، وعالم مفتوح على لا نهايته، تتماحك الخيالات، تبني عالماً، تَخرق آخر وتقيم جنائز وحيوات عديدة في ظل جنائز وحيوات عديدة أخرى. تتَمسرَحُ المَشاهد، أو تصبح سينما الفانتازيا، لكل مسرحية نصُّها، لكلّ لقطة حواريتها، كما لدموع العاشق وأغنيات الشاعر ولدساتير السماوات العجائبيّة لغات وإن نُقلت مُشافهة فهي مكتوبة وإن لم تُكتَب. كيف تستجيب اللغة المستثارة بالجمال والحق والغبن والظلم والحرية والحب لعصف العالم الجنوني الخارج من المطلق، كيف يُساس قيادها؟ وكيف تصير ممراً للسحر والجمالية والمتعة والخدعة كمختبر يحلل الوجود برمّته إلى عناصر ذرية، ويحوّر مفاعلات النوى في انفجارات مكتومة أو مدوية، فتُخلَق عوالم مُتَخيَّلة تضاهي عالم الحقيقة وربما تفوقه في الجمال والعدوان؟

في عوالم اللغة السحرية غالباً ما ينفتح الكاتب الساحر على خيالاته بفعل آخرِ استثارات تلقاها، دالفاً بسرعة لتحضير خلطته مغلقاً الباب وراءه كي لا يتبعه أحد، يُهام ويزبد ويرعد قبل أن يمطر ويبحر في مسرحية هو مؤلفها الوحيد والخاص.
والهوام باعتباره حالة من الاختلاق الذهني لمجريات حدث بأكمله دون أي وجود حقيقي له في الواقع؛ نجد أنه الفاعل الرئيسي في عوالم اللغة السحرية حيث يقلّ حضور السرديات الواقعية إن لم ينتفِ هذا الحضور من عين أصله، ويُمَسرح الهوام الخيالات الخاصة بكاتبه، فتتقوّض أي حقيقة تحاول اللغة تمريرها.
في عوالم اللغة الهوامية تتقاذفنا الاستعارات والتشابيه والمجازات، وتبتلعنا زوابع الدلالات المتماوجة في آفاق الكاتب المتوالدة بلا انتهاء. يتعذّر حينها فصل خيالات الكاتب عن وقائع يقولها، يتعذر فصل رسائل واضحة من مروياته المُدمَجة بالشاعرية أو الغضب أو الحبّ أو الفكاهة، كما يتعذر استبيان غاياته المُضمرة تبعاً لاختلاف التآويل والمعاني والشروحات واختلاف تناول المدارس اللغوية لها.
هذا التعذّر هو السهل الذي يقع في الامتناع، ويقع الجمال فيه في فك الخدعة، أو لنقل تتخفى فيه الخديعة في مكامن الجمال. هنا يقع ضحايا اللغة المهوِّمة في سحر الجمال المُراد به باطل الخديعة. ويستسلمون لألاعيب وأحابيل اللغة اللذيذة الساحرة.
إن الإنسان باعتباره كائن لغوي له معجمه الخاص، وجوده هو وجود لغوي، وذاته ذات لغوية، نجد أن المفكر الفرنسي جاك لاكان قد اعتبر هذه الذات اللغوية هي المسند إليه في لعبة الدوال والمدلولات التي كرسها، متكئاً فيها على عمل عالم اللسانيات السويسري فيرديناند دو سوسور ومنطلقاً من نظرية فرويد عن اللاشعور. واللاشعور عند فرويد هو مكمن الذكريات والمشاعر التي لا يدركها العقل الواعي ولا تخضع لسيطرته. اعتبر لاكان اللغة نظاماً رمزياً تفاضلياً، يقوم على دلالات معينة لها قوانينها الخاصة وعملياتها المحددة، من هنا جعل لاكان لكل عملية نفسية في اللاشعور مقابل له، أو دالّ في نظامه الرمزي اللغوي. فمثلاً أن أقول: «إن هياكل الجبال يحبرها ضباب أزرق»، أكون قد استبدلت دلالة الحبر اللغوية بالضباب، وهذا الاستبدال هو انزياح دلالي، انعطاف يغيّر المعنى، ينطوي على عملية نفسية تتم فيها ترجمة مختلفة للمضمون اللاشعوري وتقنيعه ليكتسب معنى آخر في التعبير عنه. هذا الانزياح يسميه لاكان المجاز، ويجعل منه المقابل لعملية التكثيف في اللاشعور لدى فرويد التي يتم فيها إكساب المضمون اللاشعوري معنى مختلف آخر.
هناك انزياح آخر يتكوّن عندما نعتمد التشبيه والاستعارة، حيث نربط استخدام التشبيه بالصورة المراد وصفها فتظهر لدينا علاقة سببية تربط استخدامنا للصورة بدلالتها، كتعبير العرب القديم «رحب المقلد» الذي يصف الرجل عريض الكتفين؛ فالمُقلّد هو مكان السيف على الكتف، واتساع هذا الموضع يشير لاتساع الكتف. يسمي لاكان هذه السببية في الصياغة اللغوية بالكناية، التي مردها عند فرويد هو تحول المضمون في اللاشعور بتكييف جديد لكنه يعتمد على دوال المعاني نفسها ويسمي فرويد هذه العملية بالتحويل.
في تتبعنا للانزياحات الدلالية للغة السحرية نجد أنها ذاخرة بالمجاز والكناية، وإن أخذنا بنظرية لاكان يجعل من تلك الانزياحات مرآة ينعكس من خلالها التفاعل الجاري في اللاشعور والذي يبدو كأنه دغل حي مكتظ بالكيانات والرغائب والذواكر التي ليس لها ماهية أو حركة محددة، حيث تظل كل تلك الكيانات كامنة حتى تتحرر بتعابير اللغة المنفعلة. فاللغة الهوامية هي لغة العوالم السحرية التي لا تُفرِغ موضعاً من احتماليات الجد والهزل، أو الصدق والخداع.
بالطبع إن الهوام اللغوي يلعب دوراً في تفجير معاني النص داخليّاً، فيشيّد هذا النص، بل أبعد من ذلك إنّه يجعل من النص كياناً جمالياً يقارب السحر بأثره، لكن هل ما يقوم به الهوام اللغوي هو تكريس خطاب مفتوح على الآخر أم تمرير خطابٍ منغلق على الرغبة؟
إن مخاطبة الآخر هي ما تشكّل بنية الرغبة بالنسبة إلى لاكان، واللغة هي التساؤل عن رغبة الذات ورغبة الآخر في الوقت نفسه، لذا فاللغة هي خطابُ الآخر.
ما يقع كثيراً في عالم اللغة الهوامية الساحر هو إدماج الكاتب لموضوعات رغباته مع ذاته بهدف إشباع هذه الرغبات- أحياناً تكون هذه الرغبات هي الآخر المُخاطَب بعينه- وأن يحصل الإدماج في داخل الكاتب أي أن يحدث على مستوى خطابه النابع من الداخل. وهذا الإدماج للرغبة بالذات هو ما يطلق عليه علم النفس التحليلي «هوام الاجتياف».
يكشف إدماج الكاتب للآخر بذاته –أي الآخر كموضوع للرغبة – عن قطيعة تقع في الخطاب الموجه للآخر. قطيعة تثير تساؤلاً عن حقيقة رغبة الآخر، وبالتالي يكون التساؤل عن حقيقة الرسالة التي تحملها اللغة، أي عن حقيقة الخطاب الذي كان عليه أن يكون في نواته تساؤلاً من الكاتب عن رغبة الآخر.
ما نستطيع تبينه هنا أن اللغة التي يُلغى فيها التساؤل عن رغبة الآخر يظل فيها التساؤل متمحوراً فقط حول رغبة الذات وحدها. وهذا ما يجعل من خطاب اللغة هذه خطاباً هوامياً لا يعدو كونه مسرحة خاصة بكاتبها ومغلقة على رغباته.
في المحاكاة الخيالية الجارية في ساحة اللغة الهوامية يقع أحد وجوه الخداع الذي لا يذهب في أبعاده وتداعياته مذهباً بعيداً. حين تُروى قصة متخيلة ليس من المؤكد أنها وقعت وقد انتصر كاتبها، أو عندما يصوغ الشاعر قصة لقاء عذب مع فتاة لم يرها. إن إدماج الرغبة هنا يجعل ذلك الخداع غير منطوٍ على أحجية أخلاقية، ولا يعدو كونه فعلاً لغويّاً وإن كان له سلطان السحر والأثر في تحفيز مخيلة الآخر، وحتى باعتباره تدليساً لا يمكن في أي حال من الأحوال تحميله تبعة ما، وذلك لسبب بسيط أنه لا يعدو كونه حراكاً زئبقياً بين المُتخيَّل والمُحَقّق في المنطوق، فالرسالة فيه ومنه تحتمل الصواب وعدمه، وإذا كان هنالك من تبعة ستقع، فهي حتماً تبعة التصديق على من صدَّق.
الهوام باعتبار أنه لغته لها تجلّيها؛ قبل أن يكون مرايا تتلاعب بانعكاسات الذات والآخر عليها. هو موشور تستطيع الخيالات المعتمة لعب دور أطياف الضوء الأرجواني عليه، فعالم الشعر بوصفه عالماً هوامياً من النوع الممتاز هو عالم تحيل فيه الانزياحات الدلالية كالمجاز والكناية بواطن القهر والألم والكبت إلى عوالم سحرية تستطيع استلابنا بلا نهاية إلى العمق المجهول للذات الكاتبة، حتى وإن كان الولوج هذا لا يعرّفنا بحقيقة هذا العالم المجهول. فالطريق السحري هنا هو الغاية وليس الوصول. لكن من منّا يا ترى يريد أن يجانبَ ويبتعد عن سحر اللغة، وإن كان سيقع ضحية الهوام؟ من منا يريد أن يقاربَ صوابية الجمال وخداعه عوضاً عن الاستسلام له؟