إذا انتعلت حذاءً رياضياً، ذات ماركة موثوقة وموديل آخر صيحة، فذلك لن يساعدك على اللحاق بركاب العالم، حتى ولو أنه حذاء رياضيّ جديد، فلن يكون مفيداً إن قرّرت الهرولة وراء مانشيتات الأخبار التي تشبه، بإنشائها وتراكبيها، هذياناً سريع التداعي يُقدم عليه مختلّ لا يتوانى عن إظهار لسانه بعد كل حرف ينطق به.العالم حافل في سباقات الركض الطويل، وكل الأحذية سواء؛ مهترئة تتآكلها الثقوب. إن استطعت مواكبة انقلاب فتيان فاغنر، والاحتجاجات العارمة في فرنسا، وسرعة اللكمات داخل حلبة المصارعة التي يتبارز عليها إيلون ماسك ومارك زوكربرغ (وقراءة مقالات إنما) دفعةً واحدة، فستضع الأجيال المقبلة صورتك في ألبوم الفلاسفة الذين نجحوا في المشي بالموازاة، خطوة بخطوة، مع التاريخ.

(تصميم: فرنسوا الدويهي)

الاستيقاظ. التاكسي. بدء العمل. استراحة الغداء. العمل (مجدداً). تاكسي. المنزل. التلفاز. الحرب. السلم. التظاهرات. الاتفاقات. النوم (متقطّع وقليل) ومقولة كتبها نيتشه منذ أكثر من عقدين خرجت من النص وتحققت «بافتقارها إلى الهدوء تنزلق حضارتنا نحو الهمجية». والانزلاق في الكثير من الأحيان، يليه السقوط، والسقوط على الرأس موجع، وخصوصاً إن حدث في حلبة الجري السريع. إذا كان لحضارة اليوم تمثال حرية خاص بها، فسيكون كومبيوتراً كبيراً له أذنان وفم، تتحدث معه فيستجيب، ويتحدث معك. هذا هو الذكاء الاصطناعي، والذي يمثل طوطم الهمجية التي وقعت حضارتنا في أتونها. والذكاء الاصطناعي، أو «إي آي»، ينحدر من نسبه ما هو معروف بـ«تشات جي بي تي». والأخير برنامج يمتاز بسرعة خارقة، وذاكرة رهيبة، لا أتباع الغزالي شككوا بذكائه، كما أنه لم يخضع لمنهج (الشك) ديكارت. وبالرغم من أن تشات «جي بي تي» لا يزال لحد الآن منضبطاً، مطيعاً، ويجيد التصرف، إلا أنه يترك رعباً موحشاً داخل الكائن البشري كلما تحدث عنه حتى باتت مفردة المستقبل تعني له ثقباً أسود يستعدّ للانقضاض على أبناء جنسه. إنها رغبة إنسانية معاصرة تقضي بأن يخضع كل شيء لمبدأ السرعة، وبأن يخطو كل شيء وفقاً لمسار «الديلفري»، فخذ، إذاً، هذا الروبوت ولا تتذمر عن قلقك!
منذ فترةٍ وجيزة، أقدم التشات «جي بي تي» على تحدّي إنسانٍ في امتحان فلسفي، وهي حادثة أعادت التذكير بمباراة الشطرنج التي جمعت اللاعب الروسي كاسباروف مع روبوت، حيث انتصر الأخير. في ١٤ حزيران من العام الحالي، تنافس الفيلسوف الفرنسي رفائييل إنتهوفين مع «التشات جي بي تي» للإجابة عن سؤال فلسفي يندرج في منهج البكالوريا ويتعلق بمفهوم السعادة، «هل السعادة مسألة عقل؟». أجاب الذكاء الاصطناعي في دقيقتين، والفيلسوف في ساعة وربع ساعة. حصل الأول على علامة واهية (١١ على ٢٠) وذلك بسبب جمله الهشّة، الطويلة، والجوفاء، الخالية من المضمون، بالرغم من استدلاله بمفكرين مثل كانط وفرويد، لكن اقتباساته بقيت مقتضبة وغير كاملة، فيما حصد رفائييل إنتهوفين على العلامة كاملة.
أخفق الذكاء الاصطناعي في إعطائنا الخلطة السحرية عن السعادة مثلما يخفق البشر عندما يخرجون عن التنظير عن السعادة ويعجزون عن القبض عليها وعيشها. فهل هنالك، في النهاية، فائدة من ذكاء كهذا؟ ثم أين يكمن الخط الفاصل بين الاصطناعي والإنساني؟ ربما، يقبع الافتراض من أصله في قول الصديق (العزيز) طالب شحادة: «... كتبت أن الروبوت يثير شفقتي، لكن الإنسان يبكيني تماماً».
داخل هذه المطحنة - السريعة، وكأن العالم أشبه بماكنة «مولينكس» - التي تعصر الكائن البشري، وجب أن تولد أسئلة كثيرة عوضاً عن وفرة الأجوبة الشائعة، إذ ممكن للتأقلم أن يكون جواباً، وعدم الشكّ أيضاً، وعلى أحدنا التمهل والتؤدة لكي يبقى محافظاً على إنسانيته. وبعيداً عن هذا الطحن العبثي والمجاني، وعلى ناصية السعادة، يعرض هذا العدد من «إنما» انشغالات كتّابه، انشغالات ستبدو، في المقام الأول، إنسانية، أولاً لأنها تدور حول مآل اللغة، وأشكال الكتابة، وعن اللغة نفسها في المبنى والمعنى، والهدوء والتروّي في التفكير عن الكتابة والكتابة عنها. هي انشغالات هادئة، في عصرٍ سريع مزدحم، يأخذ من الـ«إي آي» إلهه الجديد، وهو إله غير آبه بأفول اللغة، ولا بموت الإنسان، ولا بدلالة الرسالة أو حتى بالرسالة نفسها والتي يبدو أنها ستمحى، مع الوقت على يده وستتحوّل من اتصال وتواصل، إلى فعل أمر جازم.