من طبقة عميقة داخل حيثيّات نشوء المرويات، يحضرُ النوم بسلطة مُختبئة، يُشبه الألوهة أحياناً، ويُملى عليها أحياناً أخرى، ثم يتراجع ليكون أداتها. يمرّ على التاريخ من أوله إلى آخره في حضور مُخادع، يُراوغ بالأحلام، ويتمسّك بقاعدة بديهية واحدة عنه، وهو أنّه شبح غير مرئي، يسير في خط مُحتمل التصاقه بخط الموت، لكنّه في أحد أشكاله، يُمثّل لحظة خلق هذا العالم الذي نعيشه.عرف الإنسان البدائي ضرورة النوم، ليس كروتين يومي، وإنما كأولى حالات التواصل مع ما هو «غيبي»، فقد وُجدت في الكهوف نُقوش حول نباتات صُنعت منها الأسرّة، تعلوها نقوش تُقدّم مُناجاة للآخر المُترفّع عن الوجود المادي، بالنوم المُريح والسعيد. مع تبلور الألوهة أكثر، بالتوازي مع نشوء الحضارة، تجلّى النوم كفعل كرامة وعطيّة مُقدسة للبشر في الحضارة الفرعونية. ورغم أنه لم يكتمل حضوره بإله للنوم، مثل آلهة الموت والخير والشر، إلا أن الحُضور الكوني للنوم لم يغب عن النشاط الكهنوتي في المعابد، إذ استخدم المصريون الأفيون للاسترخاء، وكان مُعتاداً آنذاك أن يتناوله الكِبار والصغار بنسبٍ قليلة، لذلك عُرف الأفيون بثمرة النوم.

«نوم» (2009) للفنان المصري هانس راشد

اقتبست الميثولوجيا الإغريقية النوم بحضورٍ أكثر كونية، كوّنت له عائلة: «هيبنوس» (hypnos) إله النوم، الموكّل بتدليل آلهة الأوليمب وتنويمهم، هو أخو إله الموت «ثاناتوس» (Thanatos)، وأب لإله الأحلام «مورفيوس» (Morpheus). وقد سُميت العقاقير والمنومات الحديثة hypnotic نسبة إلى الإلهين هيبنوس ومورفيوس.
ثمّة وجهان للنوم في حضوره المذكور؛ الأول مُتعلّق بانتقاله من حيّز المُجرّد إلى نشاطٍ مُتعلّق بتحقيق طبقيّة ما، ودخوله في النشاط الاجتماعي والمُساعدة على الإنتاج، بينما في الوجه الثاني، ينتقل النوم إلى إطار المُتخيّل الذي يُشكّل الحقيقة، يُصبح إلهاً. ماذا يُمكن للنوم أن يكونه بعد مقام الألوهة؟
في الحكايات الشعبية اللينابية أحد شُعوب أميركا الأصليين، يبدأ العالم من الحلم، أولى وحدات النوم. يرى الخالق رؤية عظيمة، فراغاً مُمتلئاً بالنجوم، ثم تتراءى الشمس والقمر والجبال والأودية والبحيرات والأنهار والغابات، الكائنات على اختلافها، حياتها وموتها. وحينما يسمعُ الربّ اللينابي الأغاني والحكايات، ويلمس المطر، ثم يشعُر بالحُب والكراهية، الشجاعة والخوف، تنقضي رؤياه وتتلاشى. يحضرُ النوم هنا، كسلطةٍ تُملى من خلال المجاز/الحلم، وصور أوّليّة هو العالم الذي نعيشه، وحتى النشاط العقلي للإله اللينابي، ينتمي إلى مقام النوم أكثر، لأن اللحظة التي تلي الحلم، هي واقع مُتوهّم، إذ يظلُّ شيء منّا هناك. مع خيال الخلقِ الرحِب وحيّز الحُريّة الذي يوُفّره الحلم، تنتقل هذه اللحظة إلى الواقع، يُمكنها أن تُصبح مادّةً لخلق عالم كبير، ويُمكنها أيضاً، أن تتيه، مثل الآن، ولا يتجاوز الحلم أكثر من صورة زائلة. يحضر النوم في الأديان الإبراهيمية، ويتجلّى بصورةٍ ممتدّة خلال اليهودية والمسيحية والإسلام، في سرديات دينية تُدخل النوم ضمن إطار مُدوّن. في «سفر التكوين» 28، يستعين النوم بنفس الحلم، وحدته الفارقة والدائمة. يأتي الحلم هنا، مُمثّلًا النوم، في إطار سدّ الهوّة بين الأرض والسماء، وفاعلًا في بلوغ التماثل الألوهي: «فَخَرَجَ يَعْقُوبُ مِنْ بِئْرِ سَبْعٍ وَذَهَبَ نَحْوَ حَارَانَ/ وَصَادَفَ مَكَانًا وَبَاتَ هُنَاكَ لأَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ قَدْ غَابَتْ، وَأَخَذَ مِنْ حِجَارَةِ الْمَكَانِ وَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَاضْطَجَعَ فِي ذلِكَ الْمَكَانِ./ وَرَأَى حُلْمًا، وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا./ وَهُوَذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «أَنَا الرَّبُّ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ. الأَرْضُ الَّتِي أَنْتَ مُضْطَجِعٌ عَلَيْهَا أُعْطِيهَا لَكَ وَلِنَسْلِكَ./ وَيَكُونُ نَسْلُكَ كَتُرَابِ الأَرْضِ، وَتَمْتَدُّ غَرْبًا وَشَرْقًا وَشَمَالًا وَجَنُوبًا، وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ./ وَهَا أَنَا مَعَكَ، وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ، وَأَرُدُّكَ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ، لأَنِّي لاَ أَتْرُكُكَ حَتَّى أَفْعَلَ مَا كَلَّمْتُكَ بِهِ.». في المسيحيّة يجد داود المتعب الخلاص بالنوم. داود المعرّض لضغوط مكدّسة، والذي يواجه أعداء وأخطاراً يهدّدون حياته، يلجأ إلى حل كوني، ينام، مطمئناً بالصلة السماوية بينه وبين الرب، كما يأتي في «المزامير»: «بِسَلاَمَةٍ أَضْطَجِعُ بَلْ أَيْضاً أَنَامُ لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ مُنْفَرِداً فِي طُمَأْنِينَةٍ تُسَكِّنُنِي». هنا، يتشكّل الإيمان من التسليم لأفق النوم، كميثاق أكيد، لا يدلّل على تأكيده إلا التسليم، لأن النوم، في أي سياق تاريخي له، ظلّ حالة تقف على مسافة آمنة من خمول ينتج عن المَنطقة.
بدأت المسيرة المحمدية بحلم سريع، حينما نزل جبريل على النبي محمد أثناء تعبّده في الغار، وبدأ إنذار النبوّة بالقراءة. ربما تكون دلالة القراءة وقتها، هي قراءة حيثيات ذلك الحلم، ذلك النشاط الخارج عن سياق التتابع المنطقي للزمن. ففي الحلم، خاصة في الحلم المطعّم بالرواية الدينية، يخرج الزمن عن سياقه الجماعي بين الناس، لا يسير حتى في حالة موازية مع السياق العام، بل يتفوّق عليه في التراتبية، وهنا يحلّ مقام القداسة بمعنى أنه يختبئ جانباً، يشوّش على نفسه، مثل ذاكرة الحلم المشوّشة دائماً. القداسة في كسر هيبة الزمن، وتحويله إلى مادة سائلة، يمكن الخروج عنها، ومن خلال حدث الخروج، تصبح هناك إمكانية لإعادة كتابة التاريخ.
تردُ في «سورة النبأ» آية «وجعلنا نومكم سباتاً» التي نزلت خلال نشوء الدولة الإسلاميّة وفي مجتمعٍ يعيش في ظروف مكانيّة قاسية. وبحسب تفسير ابن عاشور، فإن السبات هو أقرب أحوال الفرد إلى الموت. النوم هو ابن السهو وسيولة الأفكار، يصطفّ ضد الملاحظة والانتباه وتكوين الفكرة عن وعي. يرفض الوعي الجماعي الآن النوم في ظروف جويّة ذات حرارةٍ مطبقة، ربما لأن في توحّش الشمس على السائرين في الشوارع، في النهار خاصة، إصراراً على حُمّية الزمن المتدفق في النهار اليقظ، الحضور في السياق الجماعي، سياق العمل وقضاء المصالح والتفاعل الحيوي مع أحوال الدنيا. من خلال نظرة تأملية شخصية إلى الآية المذكورة، هناك حميمية النوم ضد الظرف الزماني والمكاني في منطقة شبه الجزيرة العربية وقتها، لكن النوم هنا كأداة لإطلاق القدرة الإلهية، يصبح معبراً غير كامل التحقق للموت. تؤسّس هذه الآية لتشكيل العلاقة ومساحة التعاطي بين الإله والبشر، بين النوم كضرورة إجبارية لاستمرار مسيرة الحياة، وبينه كضرورة أخرى، تستحيل إلى عقاب من شأنه أن يوقف الفرد على عتبة الموت، وخلال هذه المساحة الرمادية، تغيب القدرة في تشكيل المسار الذاتي. الذي وصل مجبراً، على حافة الموت، هل يضمن لنفسه أي قدرة كي يعود؟