قبل بضعة أيام مرّت ذكرى ولادة الصحافي والروائي الأميركي هانتر طومسون. بمجرّد أن نردّد اسم الأخير، سيراودنا على الفور مصطلح الـ«غونزو». نتحدث عن نسق كتابي جمع بين أدب الرداءة والعوالم السُفلية والجذرية السياسية التي تعتاش على مقارعة السلطة والسلطويّين. بعد مرور نحو 40 عاماً على ذروة مناخ الـ«غونزو» نقرأ هانتر طومسون اليوم بشكل مماثل لمن قرأه في السبعينيات. هذا يعني أنّ ما كُتب يومها فيه من الرشاقة والنباهة ما يكفي لتبقى تلك المؤلفات والمقالات صالحة وبليغة حتى يومنا هذا. ما هو مؤكّد أيضاً، أننا بشكلٍ أو بآخر، نعيش فصولاً، ولو بدت صغيرة الحجم أو قصيرة المدى، مشابهة لتلك التي اختبرها طومسون. صحيح أننا نفتقد المختبر التجريبي (في شتى الميادين) الذي شهدته مرحلة أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، ولكننا بالرغم من ذلك، شهود على عصر منحلّ متشرذم لا يرى إلا من داخل فقاعته. حتى إنه وإذا ما قررنا مقارنة مرحلتنا مع مرحلة طومسون، فإن ما نفتقده على وجه التحديد، هو تحديداً ما يجعلنا نعتزم القبض عليه، وبما أننا غير قادرين على ذلك، فيتوجّب علينا، أقلّه، الإضاءة على: لغة كتابية ناجزة حملت صوتها الصادح الخاص.

نعود إلى صحافة «الغونزو» ونترك وراءنا كلّ كلاسيكيات الكتابة؛ الأنساق المعلّبة في الصحافة والرتابة الإنشائية في الأدب. نقرأ بل نستكشف كيف تكون الصحافة مجرّدة من دورها كـ«وظيفة». مع هانتر طومسون نتخلّى عن المقالة القصيرة، من المقالة السهلة، نتخلى عن القصة الصحافية المخلصة لمعطياتها ومراجعها ولكل الهراء الذي يزعم «الموضوعية». نتخلى عن الكلمات التي من شأنها أن تكون بمثابة غشاوة، تلك الكلمات التي تقول ولا تقول، وإذا قالت حرّفت وأضاعت المسار، لنأخذ عوضاً بدلاً عنها، مفردات المعيش، وقصص الراهن والخيال الخائف ورؤية للعالم ضمن منظار «اليومي» بكل تخبّطه وفوضويته.
مع هانتر طومسون، ورالف ستيدمان، وفي «الغونزو» عموماً، نرى الواقع على ما هو عليه. كلّ المبالغات جمالية كانت أم شاعرية هي ضرورات لازمة؛ ذلك لجعل الحقيقة تبدو أكثر حقيقية. وإذا بدا مدلول «غونزو» أنه مجرّد تهويمات تفوح منه رائحة القباحة والذعر، فهذا يعود إلى طبيعة الصحافة الأدبية ومدى تماهيها مع الحياة نفسها، أو لنقل: مدى انعكاس الحياة نفسها فيها، أليست المرآة سوى السطح العاكس للسائل؟ من هنا يبدو لنا سرّ «غونزو»، هو: الاضطراب والتشوّش، المشاكسة والرفض والعنف الذي يفرض نفسه مقابل الارتعاش... لكن لا داعي للولولة، فهذه حصيلة «الحلم الأميركي» أو أقلّه، نتيجته (الكافكاوية) البديهية. نقرأ في هذا العدد من «إنّما» أجمل قصة خلّفها «الحلم الأميركي»، عن صحافة الغونزو، الصحافة الأدبية التي كشطت الزيف عن هذا الحلم وصورت لنا أروقته الكابوسية.