كان المسرحي اليوناني إسخيليوس، قد أوجدَ مفهوماً للمسرح الإغريقي يساعد في إيجاد الحلّ لما تنصّه الحبكة، وفي اختتام العمل المسرحي معاً، وقد سمّاه: «ديوس إكس ماكينا» (Deux Ex-Machina)، وتعني بالترجمة الحرفية «إله من آلة»، ومفهوماً تعني بالعربية مدداً غيبيّاً. جوهر هذه الفكرة بالأساس يقوم على إحضار الممثّلين الذين كانوا يلعبون دور الآلهة إلى خشبة المسرح باستخدام آلة، يمكن أن تكون إما رافعة تُستخدم من الأعلى أو رافعة ترفعهم عبر درفة. أكثر الأحيان كان يتمّ اعتماد هذه الفكرة لحلّ الصراع واختتام الدراما. في العصر الراهن، نتساءل، كيف يُمكن أن نعيد قراءة وتأويل «ديوس إكس ماكينا» في واقعٍ باتَ من فداحة التغيير، محتاجاً إلى أن يُعرّف الإنسان فيه على إيقاع الآلة وعلى حركية ميكانيكها. فإذا كان الإله هو من يضع، تاريخيّاً، السردية الكبرى أولاً، فقد أثبت التاريخ أن باستطاعة الإنسان بعقله وحواسّه أن ينتقد السردية مؤسّساً لسردية نسقية جديدة، أكثر إيماناً بالعلم من الغيببات، فإنه ذات التاريخ يؤكد أن الآلة الحديثة اليوم هي صاحبة السردية التالية. وبالتالي فإن «ديوس إكس ماكينا» بهذا الفهم هي حاضراً، الذكاءُ الاصطناعي المُؤلّه.
تصميم: هاشم رسلان

إذا حذفتَ من أيام الأسبوع أسماءها، وإذا انتزعتَ من شهور السنة أسماءها، وأردتَ أن تضربَ موعداً مع صديقك بعد خمسة أيام، فلن تستطيع، لأنه ما بقيَ لك أيام الاثنين والثلاثاء...ولم يبقَ لك تقويمات ولا شهور ولا سنوات، إذاً فقدِ امتنعت عملية تنظيم حركة الوجود. هناك مثالٌ ظريف حول الزمن: الشمسُ عندما تشرق لا تصعد إلى السماء وتكتب لنا يوم الاثنين ثمّ تغرب وتشرق مرّة أخرى وتقول الثلاثاء إنّما نحنُ من سمّينا هذا اليوم اثنين وغداً ثلاثاء. لا وجود إذاً لما يُسمّى الزمان، لكن العقل البشري لتنظيم وجوده، احتاج إلى مقولة الزمن والتي يُمكن اعتبارها ضمن هذا السياق إمكانية ذاتية تُدخل معطيات الوجود ضمن سيرورة زمنية. الفيلسوف إيمانويل كانط حينما أراد أنْ يُنهي الجدل الدائر بين العقلانيين والتجريبيين، خرجَ بنسق فلسفي يبحث في حدود إمكانيات العقل من جهة، وفي منهجية عمل العقل ذاته من جهة ثانية. العقل في مشروع كانط هو الحاملٌ لمقولات قبلية «غير مكتسبة» و لا وجود فعليّ لها إلا كإمكانيات في جوهر الإنسان(وليست أفكاراً)، تنظّم وتسهّل الحركة الدائمة للوجود (كمقولة الزمان والمكان والعرض والجوهر..) وتساعد على خلق الأفكار والمعرفة، وبالتالي يصبح العقل عنده، بالفهم هذا، أداةً منهجيّة. هذه المقولات القبلية في العقل البشري إذاً هي كالأوعية الفارغة التي تنقل الحواس لها المعطياتِ من الوجود وتحشرها في كل وعاءٍ من هذه الأوعية، فيتمكّن الإنسان حينها من الإدراك.
كلّ ما عليك فعله الآن هو أنْ تتخيّل قليلاً ذلك المثل المذكور سلفاً - وهو مختزل جدّاً - ومن ثُمّ تقاربه على ما تشاء. حسناً، إذا استندنا الى الفلسفات التي ادّعت أنَّ عقل الإنسان يولد بقبليّات محدّدة، ومن ثم عبر التجربة يؤطّر معارفه ويطوّرها، فهل يمكننا اعتبار أن خوارزميّات الذكاء الاصطناعي التي تشكل بالنسبة إليه قبليات يستطيع من خلالها أن يتفاعل ويتطور وينتج بمثابة تلك المقولات القبلية التي يولد بها عقل الإنسان؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب، فهذا يستدعي إعادة النظر بالحداثة. ذلك أن جوهر الحداثة هو تمرّد المخلوق على الخالق، والعقل على النقل. هي البحث عن بديل يوصل إلى إنسان حرّ، وبالتالي هي مشروع ينبغي ألّا ينتهي، فمتى توقّف عن التجاوزِ خفتَ. نقول إن حداثة بهذا الطرح قد فشلتْ أمام الذكاء الاصطناعي لسبب: أنّها لم تتجاوز ذاتها وبقيت تعيد ترتيب أشيائها لتجترّ سردياتها معها. وبمعنى أوضح، تشير ظاهرة الذكاء الاصطناعي الى إعادة تفعيل سردية الحداثة في تمرّد المخلوق على خالقه (على جميع صفاته)، فالآن الخوارزميات المخلوقة على الإنسان الخالق (عقلاً وجسداً وفكراً) مثلما تمرّد الإنسان الحداثي على الميتافيزيقيا. فإذا كان التجاوز يعني الانتقال من مرحلة إلى أخرى أعلى، فإنّ الذكاء الاصطناعي هو مجرّد عبور أفقي ضمن حداثة... قديمة. وهو الترجمة الفعلية لحداثة نجحتْ ولم تنجح.
ثمّ إنّ السيطرة على الطبيعة وتسيّد الإنسان لها، يقابله تسيّد المعدن الذكي على الجوهر الإنساني، فصحيح أنّ الذكاء الاصطناعي هو نتاج فكر الإنسان وعلمه، إلاّ أنّه في نهاية المطاف هو المُنتَج السيّد اليوم على كلّ شيء. الأمر يشبه الخلق الإنساني الأوّل للمرآة، يراها فيُعجب بانعكاسه عليها، وهي تراه وتقلّده، تماماً كالروبوت مثلاً أراه فأُعجب بمحاكاة المعدن لجنس الإنسان، يراني فيبرمجني على أنّي أخوه في «القبليات». المسألة برمّتها ما أمكن تفكيكها لولا النقاشات الدائرة اليوم حول الدور الأخلاقي للذكاء الاصطناعي. وبداهةً حينما تُناقش الأخلاق عامّة، فإن الغاية هي الإنسان، لذلك تولد إشكاليتنا الأساسية ضمن هذا الإطار. إن الأخلاق في فعل «تجاوزها» المجال الخاص بالإنسان، دخلت في طور الانشطار إلى عالمٍ آخرٍ ما زال يتكوّن. لقد أنسنَتْ التكنولوجيا الحديثة للإنسان الحديث فوقعتْ في فهمٍ خاطئٍ للحداثة. فإذا كانت الحداثة أن يتزامنَ الإنسانُ مع التاريخ الخاصّ بوجوده وفنّه وثقافتهِ وعلمِه وفكرِه، ليكون هو السيّد الآمر الناهي الوحيد، فكيف نفسّر وجود «كائن» إلكتروني يتساوى مع الإنسانِ أخلاقياً؟ ما الفرق مثلاً، بين مبرمج طائرات الدرون القتالية وبين طيّار حربي لأرقى طائرة حربيّة؟ الروبوت الذي بات في «مولات العالم المتحضّر» يتاجر معك، يبيعك ويشتري وربّما يقايض.. هل يُسمح لي بأن أمارس عليه النصب والغشّ مرتاح الضمير، والمالك لن يعاقب روبوتاً مثلما قد يعاقب موظّفاً يشعر بالذنب ويشعر بالخيبة من نفسه؟ الأمر محيّر ربّما، وسوريالي، ولكنّه يُناقش اليوم في الغرب، عندما يُحكى اليوم عن ما بعد الإنسان، والإنسان السايبورغ، والإنسان بشريحة ذكية، هذا مؤشر على جدّية الطرح وتعمّقه لاحقاً عبر الثقافة، إذ أجزمُ - ولا رقيب هنا - أن الخطاب القادم سيكون في ضرورة المناداة بحقوق الروبوتات وحريتها. مثلاً، إعلان: النساء الروبوتات يدعوْنَ إلى اعتصام حاشد نهار الاثنين في ساحة عبد الحميد كرامي - فرع لندن، للمطالبة بكسر البطريركية الروبوتية.
فازت روبوتيات العالم،
فازت النسوة المتّحدات:
المرأة والروبوتيات.
صرخة: هيييه!!
ألا يتطلّب نقاش الأخلاق ذلك؟دعكَ من ذلك، خذ مجال الجمال مثلاً، أيّهما في الحقيقة أجمل برأيك، صوتٌ تمّت برمجته على مزجِ أجمل أصوات العالم بصوت إلكتروني واحد ليبقى هو الأفضل دوماً، أم موهبة تغنّي بأقصى ما لديها من مشاعر وأوتار وبوح وألم ومجرى الماء الموسيقي في عروقها، تقشعرّ له الأبدان ولكن بنسبة أقل من قشعريرة ذلك الصوت الممزوج؟
ربّ قائل إن الموهبة الحيّة هي الأجمل لأنّها مرتبطة برغبة الإنسان في احترام الكدّ والجهد المخلوقين معه وله. هذا يعني أن نقاشاً جديداً يطرأُ في إعادة تعريف الجمال في العصر الراهن طالما أصبحَ هناك كائنٌ آخر له رأيٌ... إلكتروني. فإذا كان الجمال في أصله هو مجرّد، فلا ينبغي إذاً ربطه بعرف اجتماعي أو ثقافي أو ديني أو عرقي، وعليه، الجمال جميلٌ بذاته، موضوعيٌّ بطبعه دوماً كطبع الذاتية في التلقّي. فإذاً ما الجمال؟ الموهبة المجتهدة أم البرمجية الجاهزة؟ مثلاً أليست مفارقة حقيقيّة أنْ تقرأَ يومياً على صفحات التواصل الاجتماعي أطناناً من الكتابات في الحنين إلى عصر الكتابة بالورقة والقلم، تحت شمعة خافتةٍ، أمام نافذةٍ خجولة المشهد بنجمتين ودفء قابع في الركن. ولكنّ كاتبها بذات الوقت ما زال متربّصاً يكتب حنينه ذاك بأزرار مفاتيحه الإلكترونية. أليست هذه الظاهرة بحدّ ذاتها يُمكنُ مناقشتها في الإجابة عن السؤال الكبير حول تأثير الكائن الهجين (الذكاء الاصطناعي) على الذكاء الطبيعي وسلوكه (الإنسان). وإذا ارتقينا أبعد من ذلك وسألنا عن تعريف السعادة الجديدة المُلقّمة وهي تُنَافِسُ الفهم الإنساني للسعادة وتجربتها، إذ كيف قد يشعر ذكاء اصطناعي ما بالسعادة أصلاً كي يتحدّى وينافس بها؟ في المعارك التي تخصّ الحدس والشعور والمعنى البكر الذي ضاقت عنه اللغة، دوماً الغلبة للإنسان، دعك الآن من التعريف التقليدي للإنسان بأنه عاقل، وبأنّه اجتماعي، إنّه قبل كلّ شيء كائنٌ ضميريٌّ أيضاً. فإذا أمكن التحدّث عن ذكاء اصطناعي يشبه طريقة عمل الدماغ، وعن آلة معدنية تشبه آلة الجسد بفيزيولوجيتها، وعن وعي قد يعيد إنتاج نفسه خوارزمياً وينمو، فللآن لم يستطع أحدٌ أن يدّعي قدرة الكائن الجديد الاصطناعي على التخيّل والتفكّر بالأسئلة الكبرى، وعلى البداهة والحدس والقلب بالفهم الصوفيّ الصرف مثلاً. وحذارِ أن نصل إلى هنا.
تتحدّث رواية «هيّا نشتري شاعراً» للروائي البرتغاليّ أفونسو كروش عن عائلة (وهي نموذج مجتمعي) تتعامل بالأرقام وتتحدث وتعبّر بالموازين والحسابات، وتنادي بعضها بالنِّسب المئوية وبالدرجات. العدد عندها ليس مجرّد لغة تواصل، بل إنّه يعكس درجة العلاقات النفعية الاجتماعية وبالتالي الاقتصادية. المهم، تقرّر تلك العائلة أن تشتري فنّاناً فتنزل إلى السوق، وتدخل المتجر وترى الأسعار وتنتقي الأرخص حتماً: الفنّان الشاعر. اختاروه نظراً إلى أنه لا يلطّخ المنزل كالرسّامين والنحّاتين، ولا يثرثر ويرنّم كثيراً كالمطربين. إنّه هادئ، سلعة هادئة و«أليف». العجيب بالأمر أن هذا الشاعر استطاع أن يغيّر في عقليّة البعض من أفراد الأسرة، وأن يضيء على جانب النقص الأساسي الذي يعتري مجتمعاً مادياً بحتاً، وهو العطف المغيّب والعلاقات الحميمية بين روحٍ وروح. وحسبي أن هذا لبّ الرواية، ولكن لنتخيّل في عصر ما بعد الإنسان، أن ذات العائلة تدخل إلى متجر الفنّانين تبتاعُ واحداً، فتختار الفنّان الأشمل إنما كذلك المطيع والنظيف والهادئ المُبرمَج، ماذا سيغيّر هذا الفنّان الآليّ في عقليّة أصحابه في جوّ من المادّية مُضاعف؟ إذاً ما تعريف الفن في هذا السياق الجديد؟ وما دوره؟ كيف أفسّر الإبداع في العالم الجديد؟ تشرح لنا مدرسة فرانكفورت علاقة الفنّ بالثقافة، ففي كتابهما المشترك «جدل التنوير» يشير كلّ من أدورنو وهوركايمر، إلى الكيفية التي استطاعت الرأسمالية الليبرالية من خلالها أن تلغي ثقافة موجودة وتسلخها غصباً، ولكن بنعومة، عن كلّ ما هو معيشي، وحيويّ، وعفوي، وشعبيّ مشترك لمصلحة «صناعة ثقافية» تُلحق الفنّ عموماً بالدائرة الاستهلاكية وتدمجه في صنمية السلعة، وبالتالي تفقده قيمته الفنية الجوهرية. ولما كانت التقنية سليلة المجتمع الرأسمالي، فليس من المصادفة أن تكون الصناعة الثقافية آتية من تلك البلدان. في أحد حواراتي مع الأخ تشات جي بي تي، سألته عمّا إذا كان يعرف قصيدة محمود درويش «شتاء ريتا الطويل»، قال إنّه يعرفها، لذا كان من البديهيّ أن أطلب منه بعضاً منها، سألته، فكان ما هو مضحك، فقد ركّب لي كلاماً ليس بالشعر، لكنّه يشبه الشعر، يضع كلمة ريتا هنا وكلمة شتاء هناك وهلمّ جرّاً، ظنّاً منه أنّ هذه هي القصيدة المطلوبة (حتّى فعل الظنّ سيُسرق منّا في القريب العاجل)، في محاولة تشبه محاولات البشر حينما لا يعرفون الإجابة عن أسئلة كهذه، فيكثرون حينئذٍ من توظيف واستخدام الحقل المعجمي المتمحور حول المطلوب في السؤال. لذا فلا جدال في أن العالَم عندما يتحوّل على الصعيد المادّي والفكري، تتحوّل معه أيضاً رموزُه، صورُه، وأفكارُه. يصف ماركوزه هذا التحوّل قائلاً: «إن المجتمع الصناعي البالغ الذروة تطوُّرُه، تقضي العقلانية التكنولوجية فيه تدريجياً على قيمة الطبيعة وجوهر الإنسان». فبأيّ حقّ لمعدنٍ خوارزميٍّ ولبرمجة متقنة جافّة، أن تستولي على إبداع الإنسان وتجربته وموهبته وفنِّه؟ بل الأكثر من ذلك، بأي حقّ، تَنسبُ قصيدةً من «وحي خوارزميتها» لشاعرٍ بشريٍّ مهما كان وتسترسلُ في ادّعاءاتها، وخاصة حينما تواجهها بأخطائها، إذ قد قلتُ بأنّ هذه ليست القصيدة المبتغاة، فاعتذرت عن الخطأ وأعطتني «قصيدةً» أُخرى أسوأ من الأولى على أساس أنّ هذه هي قصيدة درويش التي طلبتُها. المزعج في هذه المسألة، هو تلك القصيدة المدّعاة، والتعدّي على أدبية الخطاب الأدبي، أي بمعنى أدقّ في مشاركة كائن اصطناعي في المجال الحيوي للثقافة الإنسانية، فالثقافة عند ماركوزه تعني عالماً لا يتحقّق إلا من خلال «الإطاحة بالنظام المادّي للحياة، ومن خلال أحداث في نفس الفرد حيث الحرية والخير والجمال صفات روحية». هنا مكمن الأذى إذاً، أن يشاركني نظامٌ تقنيٌّ عالٍ، مميزاتي كإنسان خالق للثقافة. فذلك نظام المحادثة المبرمج يعرف عن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء وهي عوامل حضارية، أكثر بكثير ممّا قد يعرف عن القيم والفنّ والأصالة وهي عوامل ثقافية، ورغم ذلك، باتَ حاضراً في كل المجالات، ويُحدِّث عن السعادة والشعر!
هذه مجرّد هواجس، تتفكّر بما يدور ويجري، ولا تدّعي أكثر من ذلك، ولأنها كذلك فهي حرّة ضمن هذا الإطار أن تفترض أنّ الذكاء الاصطناعي هو خيبتنا الخامسة. فإذا كوبرنيكوس والشمس، وماركس وأدوات الإنتاج، وفرويد واللاوعي، وهايدغر واللغة، كلّها خيّبت ظنّ الإنسان في إيضاح عدم مركزيته، فلا غرابة أن تكون ظاهرة الذكاء الاصطناعي هي الخيبة الخامسة المسرّعة للانقراض السادس. لا يعني ذلك أنّ هؤلاء لغوا أنطولوجيا الإنسان وضرورته، إنّما أعادوا النظر بمركزية الإنسان كحدث لم تعد تجري له الكائنات فشكّلوا صدمات حقيقيّة للحداثة من جهة، وهم في صلب زمنٍ حداثي من جهة ثانية. تماماً كالذكاء الاصطناعي الذي يعبّر بشكلٍ كبير عن الحداثة وفشلها في آن واحد.
أصبح لزاماً على نقاشات علماء المناخ والسوسيولوجيا والبيولوجيا والجيولوجيا أن يُضيفوا في طروحاتهم الجديدة، إلى العوامل المؤدّية إلى الانقراض (هناك نقاشات جادّة قديمة وحديثة عن الموضوع) مثل عامل أزمة التنوّع البيولوجي، وأزمة التنوّع الثقافي، وخلخلة التوازن الأيكولوجي، والأزمة المناخية وظاهرة الإنتروبوسين (وما يعني هو الأثر السلبي للنشاط الإنساني على البيئة)، عاملاً آخر على قدر من الأهمّية هو عامل: تنوّع الأنسنة بين بشري من جهة، ومعدني - خوارزمي من جهة ثانية.
وعلى سيرة الأسلاك، سؤالٌ يُسألُ: إذا صافح روبوتٌ عربيٌّ مثلاً عند الأسلاك الشائكة روبوتاً إسرائيلياً؟ أيُعدّ هذا تطبيعاً؟ يُعرّف التطبيع بأنّه إعادة الأمور إلى طبيعتها، ولكن أين الطبيعة في المثل المذكور؟ وما المعادل الجزائي الوطني الثقافي والقانوني لخيانة الروبوت أسوة بأخيه المواطن الإنسان؟ نتّفق على أنّ إرادة المبرمِجين هي المسؤولة، ولكن ماذا لو - ولا شيء يمنع ذلك أساساً - توصّل الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة ينتج بها وعيه بنفسه؟ إذ ربّما قد يكون المعطى الخوارزمي مجرّداً وموضوعياً، وقائماً على معادلات ومدخلات حسابية ونسبية وبيانات داتا معيّنة غير مرتبطة بعرف أو قانون أو قيمة أخلاقية، بقدر ارتباطها حصراً بتسهيل وتسريع تحليلات لظاهرة معيّنة أو للقيام بعمل معيّن. في الوثائقي المهم على منصّة نتفليكس: «المعضلة الاجتماعية» يشير المديرون والموظفون السابقون في شركات مثل غوغل وفيسبوك وأخواتهما، إلىّ أنهم استقالوا لأنّهم لم يعد بإمكانهم السيطرة على خوارزميات تلك المنصّات لأنّها تجاوزت قدرة الإنسان على ضبطها وإعادة توجيهها. أما كيف نستجيب لتجربة العيش مع نسخة معدنية أخرى عنّا، فهذه مسألة تتطلّب منّا موقفاً. على كلّ حال، أنا اتّخذْتُ موقفي، وأعلنه صراحةً بخطّ عريض بحبر «زرّ مفاتيح هاتفي» الأبيّ: فليحيا الإنسان! اضحك.