«يتشابك أو لا يتشابكالصفصاف
أمرٌ متروكٌ للريح»- («أشعار هايكو أيروتيكية، ترجمة شاكر لعيبي»)


تتماهى رغبة الشاعرة اليابانية تشيو-ني في هذا الهايكو مع رغبة الصفصاف في العناق، ذلك الأمر الذي لا يملك الصفصاف فيه شيئاً حيال خيار الريح بالهبوب أو السكون. ذلك الترميز الذي لم تقحم ذاتها فيه الشاعرة التي اشتهرت بقصائدها الإيروتيكية قبل أن تتحول لراهبة بوذية. ترميزٌ فتحَ النص الوامض على ارتكاس التخييل وحرية التأويل.
الترميز، الأسطرة، التقابل، الالتباس، التضاد، التصوير والفجوات أدوات تحرّك نصاً يومض من برق الغيوم المتداخلة التي تبدو مذعورة. هل تحشر اللغة نفسها أيضاً في السعي المحموم للوصول في ماراتون الملهاة العصرية على جدران وهواء وفضاءات منصات التواصل المفتوحة للجماهير/النجوم؟ حيث الكثير من الصور للنهر التي تبتلع النهر، الصور للطعام التي تبتلع النكهة الطازجة، الصور للغسق التي تبتلع لحظة غرق الشمس، انشغال هائل كثيف بالتأطير والتجميد والتصنيف؛ تجميد الطعام، تجميد النطاف والبويضات، تجميد الذاكرة، تجميد الصورة، تجميد الكلمة، وإرجاءٌ طويل للحظة تذويب لا وقت لديها لتطرأ.

«دايزي»، أويان يوغلو

ينتشر اعتقاد أن الإيبيكراما، الومضة الشعرية أو النثرية، قد ظهرت أخيراً وبدأت تتنازع في قلبها مفاهيم من قبيل السياق والعلائقية والأسلوبية. وتعتَبر، الإيبيكراما، أنها تنتهك قوالب الشعر التقليدية في الشعر العربي وتهدمها في سبيل الانتشار وتبادل ردود الفعل السريعة من خلال مواقع التواصل والمدوّنات، مما يجعلها سريعة الدوران وكثيرة الانتقال. موقع مثل تويتر يجعل من مساحة التغريدة التي تتّسع لأقل من ثلاث مئة حرف مساحة مناسبة لقصيدة إيبيكراما واحدة بدون تجزئتها في أكثر من تغريدة.
الحقيقة أن الإيبيكراما التي يبدو تداولها على أنها أحدث الأشكال الفنية المعاصرة على تعدد أنواعها (ومضة شعرية، شذرة، هايكو، تانكا، قصيدة البيت الواحد أو البيتين، القصة القصيرة جداً) هي في الواقع أطول الفنون اللغوية عمراً إذ إن تاريخ مولدها يعود إلى ما يقارب القرن السادس قبل الميلاد، حيث كانت تنقش القصائد القصيرة على شواهد القبور في الحواضر اليونانية والرومانية، الأمر الذي ما نزال نراه في يومنا هذا. من هنا تأتي تسميتها في اليونانية من «epos» و«graphien»، وتعني: الكتابة على شيء أي «النقش على الحجر»، ويعتقد أنها شهدت النشأة الأولى في أحضان الفلسفة اليونانية، حيث تميزت الشذرة الفلسفية حينها بالكثافة والتوهج مثل شذرات هيراقليطس، قبل أن تتطور شكل الشذرة الفلسفية كما جاء في خواطر باسكال وجان جاك روسو، وكيركيغارد، ونيتشه الذي طمح أن يقول في عشر كلمات ما يقال في كتاب. ويمكننا أن نستخلص أن الإيبيكراما قد تقاطعت مع فكرة التوقيعات في العصر العباسي وفكرة الثنائيات لأبي حيان التوحيدي وغير ذلك من أنواع الشعر العربي القديم. يقول كوليردج الشاعر الرومنسي الإنكليزي عن الإيبيكراما أنها كيان مكتمل، صغير جسده الإيجاز وروحه المفارقة.
لكن الإيجاز عند الاستسهال يصير اجتزاء ورشقاً، والمفارقة تصير نزعات مسعورة لا تتوقف عن تصدير البلبلة والضجيج الذي يسمّي نفسه بالشكوى الحضارية، فيصير ذلك الاجتزاء رغبة في القول تعجز عن القول، وحباً باللحاق والسباق والتصدر الفارغ الذي لا يحمل اشتغالاً. تُفرَش صفحات مواقع التواصل بالهنّات والهمهمات والهذيانات المبتورة التي لا تلوي على خلق جاد، في الحين الذي لا يطلب الخلق الجاد صعوبة الطرق بإسفين القالب. فليست ايبيكراما كقصيدة البيت الواحد التي طلب المعري أن تكتب على قبره: «هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد»، هو ما تجنح إليه الإيبيكراما الجادة في عصر الوجبات السريعة.
تتمرد الومضة المعاصرة على القالب نعم، والتضييق عليها هو خطل معرفي عدا عن كونه إجراءً يائساً ممّن لا يجرؤون الحركة خارج القالب خشية الزلل. لكن الكيان الحر المرن للإيبيكراما الذي يمتط أنفاساً قصيرة ليخطف الأنفاس، يَجد من يستبيحه من المجربين الكسالى ممن يلقون بالهذر في تغريدة أو بوست محاولين إدهاشنا بالانفعالات الآنية والأفعال الاعتيادية بلغة أكثر ما تفتقر إليه هو العمق والأصالة فتصلنا تلك اللغة كنحيب أحياناً، أو كابتسامات وكَشَرات حائرة غير مفهومة ولا تتوقف.
في حين أن الإيجاز المجازي المكثف والمتراكب من القلق الحضاري والعمق المعرفي لا يخفي نفسه في النصوص الوامضة الجادة، فيبدو ذلك الإيجاز الوامض لامعاً ويضايق لأن مزيج كثيف من التأمل والفلسفة التي يصعب فهمها، أو لأنه مزيج من التهكّم والسخرية والتمرد والمفارقة النابعين من الاشتغال والحذاقة. ويصير التفريق بين ما يدّعى زوراً أنه إيبيكراما وبين ما يُنكر على جدية الإيبيكراما هو السمة الدقيقة في الاقتصاد الذي ليس هو اقتصاد التعميم والتسطيح والتصنيف بل هو اقتصاد الدمج والتركيب والتحرر من المحددات التقليدية، على نسق التزامن والتداخل لا التعاقب والتسلسل، الشيء الذي يحد من الاستنزاف في دوامة الوجود المستهلك الذي يجرف في الاعتيادي والعام حيث كل شيء يميع.
في كل أشكال الإيبيكراما الجيدة يوجد الحزم والتقطير والتفجر. سرعة ودقة ونموّ مطرد يولّد الإشراقة والانخطاف والاتساع الدلالي. سواء اتخذت الإيبيكراما شكل الومضة الشعرية القصيرة (قصيدة نثر أو قصيدة من بيت واحد أو بيتين، أو قصيدة السطر الواحد)، أم اتخذت شكل الشذرة الفلسفية، أو الشذرة الشعرية الفلسفية، أو حتى الهايكو الياباني (الذي يأخذ تموضع ثلاث سطور قصيرة) والذي ارتبط بفلسفة التصوف البوذية (زا-زن) واقترنت لغته بالإشارة لفصول الطبيعة، أو ما يقاربه من شعر التانكا الياباني (خمسة سطور).
«لا تصلح لشيء
ولا يمكن رميها جانباً
صنادل أمي»
في الكثافة الصورية المبتكرة في هذا النص للشاعر الإيراني مسيح طالبيان تتصوب الفكرة إلى أقصى أفقها الجمالي والدلالي بأسرع ما يمكن لتسيطر سيطرة حاسمة على انفعال المتلقّي وتخطفه وتستجمعه في مداها القصير. وهذا ما يجعل من التشكيل اللغوي للإيبيكراما هو فعل كشف وتحرير من المحددات وفعل خلق محرض على الانفتاح باعتبار النص نصاً كلياً ويخاطب عالماً لا متناه في الكبر على الرغم من تناهيه في الصغر.
في الإيبيكراما الجيدة تحديداً تتّضح قدرة الفنان الذي لا يعمد إلى تجريد العالم من غناه و ثرائه، هو فقط يتأمل و يدرك بل يمعن في التأمل ويسرف في الإدراك و ينفذ إلى المتناهي في الصغر بانفعالية قصوى تجاه الجمال والغنى، لذا يصبح تقشّفه في اللغة هو اكتشاف جديد لما تم الاعتياد على رؤيته حتى لم يعد يُرَى، فعلى قول المتصوفة: «لكل مشهد عين تختصّ برؤيته».
وهنا بالضبط يتبيّن لنا بوضوح الفرق بين النص الذي يطرحه كاتبه استسهالاً للكتابة واستخفافاً بصنعتها، والنص المحكم المتأتّي من تراكم معرفي وتراكب تنسجم فيه الدلالة مع حاملها. هنا أيضاً، يسقط الكاتب والنص أو يرتفعان. القدرة على السيطرة البنائية في الإيبيكراما هي قدرة على الاستشراف والإبداع. قدرة على التحرر والحرية. فأصحاب الإرادة الحرة لا يسرفون ولا يقللون. هذا لا يعني في حال من الأحوال أن الضرورة تقتضي أن يكون صانع الإيبيكراما نخبوياً، فتوظيف المقولة البسيطة والواقعية هو معيار جودة الإيبيكراما وليست الخلفية المعرفية لكاتبها، ولا سيما أنّ أغلب الومضات التي أُرّخَ لها مكتوبة بدهشة وعين طفل وبسجية فطرته وإن جاءت على لسان فيلسوف. في الحين الذي تخرق فيه الإيبيكراما كل القوالب التقليدية، إن استبعاد ما هو غير مُحقّق لشروطها في الاقتصاد والعمق والتكثيف وحسن التوظيف هو المعيار الوحيد النافع لتمييزها عن الهذر والهذيان والاستسهال الذي لن يختلف به الحال حينها سواء كان قصيراً أم طويلاً في إعادتنا إلى المبتذل والمكرور
«كنتُ أقول
أيها الحب، يا نجمة الإله السارحة
يا برق آخر الشتاء الخاطف، والتماعة الدهر، التي
توقظ الحلم
كنت أقول أيها الحب
أيها المعرفة السِّريّة والهنّة الجارحة، يا حجَرَ القمر
و حُجرة الغابة الفضية
أيها البرجُ
أيها الحرش، يا رائحة الغضار
ولون الزمرد الأبدي
ها
و قد قُدِّر لي
أن ألج بك الفجر
و أقع في القلوب و العيون، وأحتضن الشجر
كما قُدِّر لناظري أن يتّبع الطيور الليلية
بأجنحتها المعتمة، و هي تسوقك
للمقتل و الفناء».