بقي البشر على مدى عصور، مهجوسين بفكرة تحصيل الخلود والبقاء السرمدي. ارتأَوا أن في «ماء الخلود»، أو «إكسير الحياة»، أو «حجر الفلاسفة»، أو «النبتة السحرية» شفاء وهبة للخلود. اصطدمت تلك السرديات الأسطورية في ما بعد بحقيقة صادمة، مفادها أن الفناء قدر البشر. إلا أن شخصيات معاصرة، نعيش معها وبينها، تظهر لنا أن باستطاعتها محاكاة الأساطير في تفوقها وقدرتها على جني البقاء وحيازة الخلود. يمكننا اعتبار الفنان المصري عمرو دياب خير مثال على تلك الفكرة. تقترب شخصية عمرو دياب من شخصية «جلال ذو الجلالة» من ملحمة «الحرافيش» للكاتب نجيب محفوظ. لا يتشابه عمرو دياب و«جلال» في تطلعهما إلى الخلود فحسب بل فى جوانب أخرى عديدة. لقد رسم نجيب محفوظ «جلال» بملامح الشاب الوسيم، البهيّ، الشديد القوة والجاذبية، وأظهر تناقضه بين العظمة والتفاهة في نظرة بطله إلى الموت بوصفه مصيراً حتمياً. عمرو دياب «الذي يشبه البوصلة الزمنية التي تشير دوماً إلى المستقبل» كما يقال عنه، لربما هو بنفسه صانع المستقبل ليكون كالنبوءة التي تحقق ذاتها، ولكن عمرو دياب في الوقت عينه يمتلك حساسية شديدة تجاه الزمن إذ يترك لنا انطباعاً بأن «لديه فزعاً مهولاً من أن يصبح موضة قديمة» كما علّق عليه الباحث المصري محمود هدهود. فعمرو دياب يُعتبر أهم مغنّ في تاريخ مصر المعاصر، وسيماً، تحلم به فتيات كثيرات، بنيته الجسدية قوية، وهو رمز غنائي لجيل كبير من الشباب ويعبر عنهم فنياً. إذاً، أمام هذه المزايا التي يمتاز بها وتمدّه بـ«العظمة» إلا أنه يعيش في هاجس التحوّل الى مطرب من الدرجة الثانية، وفي مقاربة مع رواية («الحرافيش») محفوظ، فهو يعيش قلق الموت المدفوع برغبة صارخة بالخلود، تماماً كـ«جلال» الذي حاول جاهداً البقاء شاباً إلى الأبد. غير أن رحلتيهما على الرغم من تشابههما لكنهما في عمقيهما مختلفتان، في اختلاف يطاول طبيعتيهما، مثل دور النساء في حياتهما ورمزية المرأة كل على حدّة.

فبالنسبة إلى «جلال» فقد كانت النساء سبب سعيه لتحدي الموت، والرغبة فى الخلود، وكانت النساء سبباً في موته أيضاً. بينما كانت عند عمرو دياب وسيلة من وسائل إثبات خلوده، لذلك فدائماً ما يتقصّد عمرو دياب أن يكون محاطاً مع نساء أصغر منه في العمر، فتيات جميلات تلمع أعينهن كلّما نظرن إلى وجهه، ليؤكد لنا ولنفسه، على أنه يمتلك «إكسير الشباب» الدائم. وكما كانت «زينا» الشقراء بمثابة الضربة الأخيرة لنهاية «جلال»، فالنساء فى حياة عمرو دياب يشكلن نهايته المتكررة، إذ كلما أطلّ علينا مع فتاة جديدة مظهراً التباين في الأعمار بينهما بدت علامات تقدمه فى السن أكثر. على هذا النحو، يخسر عمرو دياب من يسعى لإرضائهن بهوسه في خلوده، وفي شبابه الدائم، لأن السخرية منه ومقارنة هيئته بما كانت تبدو عليه في السابق فاقعتين، هكذا تعمل وسيلته، أي الإحاطة بالفتيات الجميلات الأصغر منه سناً بوصفهن «إكسير الشباب»، عكسياً ضده.
لقد طبّق جلال وصية الساحر «عِش عاماً كاملاً في جناحك، لا ترى أحداً، لا يراك إلا خادمك، تجنَّب ما يذهلك عن نفسك»، وهذا ما طبّقه عمرو دياب أيضاً. فهو لا يظهر فى تصريحات تلفزيونية، وإن ظهر وتكلّم فيكون الحوار بمثابة تكريم له، واحتفاء به إلى حدّ بالتبجيل. وإن تكلم فلا يتجاوز مستوى حديثه ما قاله للملحن هاني شنودة: «أنا لسه 19 سنة. هاهاها»، وإن ظهر على الإعلام فتكون النتيجة كما حدثت عام 2008 حين قدّم عمرو دياب برنامج «الحلم» حيث أصبح أول فنان عربي حيّ يصنع فيلماً تلميعياً عن مسيرته الفنية، مشاركاً كضيف رئيسي في حلقات البرنامج ويحكي قصة صعوده ونجاحه الكبير.
أمامنا نموذجان، «جلال» وعمرو دياب، يمثلان أسطورة «أوتونابشتم»، حيث الإدراك بأن الخلود جسدياً يشترط الانعزال التام. أو بقول عمرو «ده جمال ينعزل في مكان مفيهوش مخلوق». فالآخر عند دياب هو تهديد وخطر، وأن ينشر صوراً له يظهر فيها علامات تقدم السن والترهل فذلك يُعتبر، بالنسبة إليه كابوساً يقارن مع هلع الجمال الخالص عند باربي. لكنّ باربي في نهاية المطاف ضحية تشكيل اجتماعي وأدوار اجتماعية، حيث الشروط التي يفرضها المجتمع على المرأة تفضي إلى عدم إظهار التقدم في السن، وأن تبقى الفتاة شابّة إلى الأبد، بينما عمرو دياب حفر فخّه بيده. فقد اخترع الهلع وعاش في داخله ذلك لأنه يملك ما لا يريد الاستغناء عنه: أن يكون رجلاً، غنياً، وذا شهرة وسلطة. فالعزلة والخوف اللذان يسيطران على عمرو دياب هما نتيجة تمسّكه بل تعلّقه بما يمتلكه، ما يجعل رغبته بالخلود فائقة. وهلع عمرو دياب قد فضحته حفلته التي أقيمت الأسبوع الفائت في لبنان. فقد اشترطت الجهة المنظّمة لحفلته على الصحافة اللبنانية توقيع تعهد بـ«عدم نشر أي أخبار سلبية عن الحفل والاقتصار على نشر الإيجابيات فقط» ما سبّب في جدل واستهزاء عند الرأي العام. حتى في حفلته، وسط الجمهور المكوّن من آلاف الأشخاص، يبحث عمرو دياب عن شرط الخلود، أي العزلة. إن رحلة الخلود التي خاضها «جلال» ويخوضها عمرو دياب أشبه برحلة عذاب برومثيوس. ومهما أراد عمرو دياب أن تكون سيرته كما وردت في رواية «الحرافيش»: «لن يبتلى بالتجاعيد ولا بالشيب ولا بالوهن. لن تخونه الروح، لن يحملَه نعش، لن يضمَّه قبر. لن يتحلَّل هذا الجسدُ الصلب، لن يتحوَّل إلى تراب، لن يذوق حسرة الوداع» إلا أن قصة «الحرافيش» إن أخبرتنا بشيء، فهو أن المهووس بالخلود، المحتقر الفناء، «جلال ذو الجلالة»، قد مات.