عام 1954 أرسل دوستويفسكي من منفاه في سيبيريا رسالة إلى أخيه ميخائيل ورد فيها، حرفياً، أن مستقبله برمّته يتوقّف على أن يرسل إليه أخوه كتاب كانط «نقد العقل الخالص»، وإذا كان بإمكانه أن يرسل إليه أيّ شيء بصورة غير رسمية فليبعث له بكتب لهيغل، وخصوصاً كتابه «فلسفة التاريخ». فإذاً، كان يتوقف مستقبل دوستويفسكي على ذلك، دوستويفسكي الذي كان مستقبله مرهوناً بالوقوف على جدار لكي يُعدم بالرصاص لكنه سوف ينجو بأعجوبة، ما سيجعل من ستيفان زفايغ يصفه بالنبي. على ماذا يمكن أن يتوقّف مستقبل قارئ عشوائيّ، اليوم، سنة 2023؟ قد يتوقّف مستقبل واحد من القرّاء العشوائيين على كتاب العظيمة كيم كارداشيان التي نشرته بين عامَي 2015 و2016 بعنوان «أنانية» («selfish»)، وكُتِبَت عنه مراجعات «جدية» على أنه «كتاب» بالفعل. تُعرّفنا كيم كارداشيان وتُطلعنا في كتابها العظيم الذي يفوق ثمنه 70 دولاراً على موقع أمازون، بتقييم 4.4 من أصل 5 من قبل القرّاء وربما بل على الأرجح النقاد، على لقطات «من حياتها الرائعة».


بالتأكيد، ولأننا في ملحق «إنّما؛» نحاول دائماً القبض على مثل هذه الكتب المهمّة أو أي منتج ثقافيّ مهم بنفس المقدار (أنا أسخر هنا فلا تصدقني)، كان لا بدّ من الكتابة عن كتاب كيم المؤلف من 400 أو 352 صفحة، لم نعرف حجم قطعها، يحتوي على صور «رائعة» قد يكون عددها 1200 صورة لـ«مؤلّفته»، حيث التُقطت لها في عدد من البلدان المُطلّة على جزر المحيط الهادئ. وقد نفدت الطبعة الأولى من كتاب كيم كارداشيان «أنانية» («selfish») وفقاً لمواقع إخباريّة بالغة الأهميّة، في غضون دقيقة واحدة، وتمّ بيع ما يقارب ربع مليون نسخة منه. وقد تألّقت «المؤلفة» في حفل التوقيع المهم جداً للكتاب المهم جداً، التي قد تحوز نوبل في يومٍ من الأيّام لإسهامها الثقافيّ الهائل، بطقم باللون الأبيض يتألف من تنورة بيضاء ملتفّة حول الخصر وبلوزة من الدانتيل المخرّم وتسريحة أنيقة وماكياج خفيف، وبكل تواضع كانت توقّع «نسخاً» من «كتابها» لـ«القراء» كمُنجَز ثقافيّ وأدبيّ خلّاب.
يكاد العمل الثقافيّ اليوم، بكلّ مضامينه، ولا سيّما في مضمار دور النشر، وكذلك الكتب الموجودة في السوق والتي يعرفها بعض القرّاء ويحبّونها ويشترونها ويكتبون مراجعات عنها، يكاد كلّ ذلك يكون شبيهاً تماماً بالفقرة السابقة من هذا المقال. إنه شيء خارج العالم، وخارج الثقافة، وخارج عالم الكتب أيضاً. ولأنّ صيرورة صناعة الكِتاب وإنتاجه والاحتفاء به هي من صيرورة العالم بمجمله، بل يمكن القول إنّ تاريخ الكِتاب هو تاريخ العالَم، على نحوٍ ما، منذ اختراع الكتابة، كما نكتشف في كتاب اليوغسلافي ألكسندر ستيبتشفيش «تاريخ الكتاب». ولأنّ القراءة هي «النشاط الإبداعيّ الذي يجعلنا من كلّ الأوجه إنسانيّين» وفقاً لرجل المكتبة الذي كرّس حياته من أجل التأريخ والكتابة عن هذا الفن، نقصد ألبرتو مانغويل، تصير نتيجة الرؤية للكتب المنشورة عربياً شبيهة - مرة أخرى - بما سبق من تعليق على «كتاب» كيم، شيئاً خارج الكتب نفسها، لا يشبهها، لا يتّصل بها، ولا يمكن في حالٍ من الأحوال أن يصبح جزءاً منها أو من صيرورتها أو من تاريخها، أو لا يمكن أن يكون شيئاً على الإطلاق.
«حين ابتلي سكّان ماكوندو بمرض شبيه بفقدان الذاكرة، أصابهم ذات يوم أثناء عزلتهم التي دامت مئة عام، أدركوا أنّ معرفتهم عن العالم كانت تختفي بوتيرة متسارعة وأنهم قد ينسون ما تعنيه بقرة أو شجرة أو بيت. الكلمات فقط، كما اكتشفوا هم، يمكن أن تكون هي الترياق. كي يتذكّروا ما كان عالمهم يعني لهم، كتبوا بطاقات وعلّقوها على البهائم والأشياء: هذه شجرة، هذا بيت، هذه بقرة، ومنها تحصل على الحليب، الذي يُمزَج مع القهوة... الكلمات، وهي ما تشكّل الكتب، تتنبّأ بما نحن، كمجتمع، أن يكون عليه العالم» يورد ألبرتو مانغويل في كتابه «فن القراءة». وعن القدرة السحريّة والمذهلة للكلمات قال الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه: «إنني أقول كلمة زهرة، وهناك خارج ذلك النسيان الذي ينفي إليه صوتي كل الحدود، هناك تبزغ على نحوٍ موسيقي الفكرة اللطيفة نفسها، فكرة غياب كل باقات الزهور». ما يعني أنّ الأدب يستفيد كذلك مما تتميز به الكلمات من قدرة على أن يظلّ لها معنى حتى في عدم وجود مُشار إليه يمكن التحقق من وجوده والتيقن من صحته.
الكتب نفسها، إذاً، هي وجهة نظر من وعن العالم، بما هو عليه وبما يجب أن يكون عليه، وحين لا تستطيع أن تقول شيئاً عن ذلك تدخل في خانة «الأدب الأقل جودة» كي لا نستخدم مصطلح «الأدب الرديء». لكن هذه الكتب وبما هي عليه، أي «قليلة الجودة»، فإنها توضع على رفوف المكتبات في هذا السوق الكبير، وتُباع، وتُقرأ، ما يجعلها منتشرة على نحوٍ أكبر، ذلك لأنّ الكِتاب، العمل الأدبي، بوصفه تسجيلاً لفظياً لشيء معنوي، لا يمكن اكتشافه إلا من خلال الآخر، من خلال مجيء الآخر الذي يقول «تعال» كما يقول جاك دريدا. إذاً، فإنّ الذهاب إلى كتب أثير النشمي وأدهم شرقاوي ومنى المرشود ودان براون، إلى رواية 11:11 وأكستاسي والخيمائي، وغيرهم وغيرهم، هو نفسه الذهاب إلى كتب أخرى يُطلق عليها لسحرها وجودتها «السحر الدنيوي»، وفقاً لتسمية سايمون ديورنج في كتابه «تعاويذ جديدة، القوة الثقافية للسحر الدنيوي»، إذ يعرض في كتابه تاريخ العروض السحرية بدءاً من عصر النهضة حتى أوائل القرن العشرين، ويناقش العلاقة بين الأدب والسحر كجزء من استعراضه، عبر تناوله أعمالاً أدبية معيّنة. إن اختيار وجهة الذهاب، في واحد من الاحتمالات، هو الذي يشكّل معنى كتابٍ ما ويمنحه قيمته، حتى لو كان لا يستحقّها، إذ ثمة «أدب عظيم» اليوم أمامنا، أكثر من أن يتمكّن أي فرد بمفرده مهما كان طموحاً ومثابراً من الوصول إليه في حياته، وهنالك أدب أكثر من كثير، وهو مُضاف إلى هذا الركام، ويضاف إليه في كل عام، كما يقول جون سذرلاند في «مختصر تاريخ الأدب».
إذا كانت مقولة ثيودور سيترجيون في أن «تسعين من المئة من كلّ شيء بغيض» صحيحاً، تكون نسبة كبيرة من معدل ما يطالعه الشخص الملمّ بالقراءة والكتابة والمقدر بستمائة كتاب أدبي في حياته منذ سن البلوغ (كما يذكر سذرلاند) هي نسبة بغيضة.
السؤال عن القيمة، بالنسبة إلى الكتب، ولا سيما الأعمال الأدبية، سؤال محيّر، ما الشيء الذي يجعل من العمل الأدبي عملاً جيداً أو رديئاً أو وسطاً؟ ثمة أجوبة عديدة عن هذا السؤال على مرّ القرون المنصرمة، بالتأكيد عبارة «الأكثر رواجاً» أو مبيعاً ليست واحدة منها. يناقش تيري إيغلتون السؤال السابق في كتابه «كيف نقرأ الأدب؟»، بكل التفصيلات والجزئيات الممكنة من الأجوبة عليه، ثم ينتهي من السؤال إلى سؤال: هل هذا يعني أنّ الأحكام الأدبية موضوعية؟ ليس بالمعنى الذي تكون فيه عبارة «جبل الأولمب أطول من وودي آلن» عبارة موضوعية، لكن بما أنّ سبيل التعبير في الأدب هو اللغة، وكل كلمة نستعملها تُبلى ويبهت معناها وتستهلك وتفقد ملامحها بسبب بلايين الاستعمالات السابقة، يصير جزءاً كبيراً من روايات مثل «نبض» و«أنت لي» و«فلتغفري» و«في ديسيمبر تنتهي كل الأحلام» وصولاً إلى عدد لا حصر له من روايات على نفس الشاكلة أدوات للاقتباس فقط لأنها مرتّبة مما هو مألوف إلى حدٍّ يبعث على الاكتئاب. لماذا إذاً تكون هذه الكتب وما شابهها واسعة الانتشار؟
تمّ استعمال مصطلح «الأكثر رواجاً» أول مرة عام 1912، لكن في أميركا ظهرت قائمة الكتب «الأكثر رواجاً» عام 1895. هذه الصفة، وفقاً لسذرلاند، أدّت إلى التقليل من رفعة الكتب ونوعيتها وتنوعها، وعملت ضد مبدأ التمييز الضروري الذي ينبغي للقارئ الحصيف أن يتوصل إليه. لذا، فإنّ الأكثر رواجاً (أغلب ما سلف ذكره من عناوين تقريباً) هو حتماً ليس الأكثر جودة، إنما قد يكون الأقل جودة.
شيءٌ آخر يُضاف إلى عوامل الانتشار هو الجوائز، بدءاً من نوبل عام 1901، ثم غونكور، أول جائزة من هذا النمط في فرنسا عام 1903، والأوسكار الأدبية في أميركا 1936، من ثم البوليتزر والبوكر 1969 (حكّام البوكر الخمسة الذين لا يحكمون الجائزة إلا سنة واحدة قد يكونون أحياناً من عالم الاستعراضات، ما يعني أنّ كاتبة الصور العظيمة كيم كارداشيان قد تكون واحدة منهم)، مروراً بجوائز أفضل رواية تحرٍّ وأفضل رواية نسوية وثاني أفضل رواية في العام وجائزة ماك آرثر للعباقرة ونوبل، وصولاً إلى الجوائز العربية التي صار عددها بالعشرات. تزداد الصعوبة بسبب الوفرة في الكتب ولا سيما عبر المكتبات الإلكترونية. ففي نقرة واحدة على الهاتف، يمكنك أن تدخل إلى مكتبة إلكترونية فيها ربع مليون كتاب، ويعني ذلك حتماً الإصابة بشللٍ في الاختيار.
هنا، قد يتوقّف مستقبل واحد من القرّاء العشوائيين على «كتاب» عظيم، كنا قد قدّمناه في البداية، لمؤلّفة الكتب «الأكثر رواجاً».