إذا كنتَ ترغب بفعل شيء ولا تستطيع تحقيقه فلا تقلق، إنّما كلّ القلق يجب أن يعتريك إن كنت قادراً على القيام بما ترغب بالقيام به. عليكَ أن تقلق بحال كانت لك القدرة على تحقيق الفعل، فالرغبة أمر كلنا نشعر به، أما تلك اللعنة أي القدرة على القيام بفعلٍ ما، فهي قادرة على تشذيبك، على جعلك تواجه نفسك وجهاً لوجه. أعرف أنّ الأمر غريب إنّما الأغرب هو أنّك ستكون المخلّص، المطر المنتظر الذي سيغسل كلّ قذارتنا التي نحيا بها والتي لسنا سببها. وبالتالي الأكثر غرابة، خذها منّي، هو الإنسان كإنسان تماماً، وجه الشبه هنا هو وجهُ «إنسانيتنا المفقودة»، لذلك نستعين بالأدب، وبكاف التشبيه لكي نبقى إنساناً.

فإن حاولَ أحد ما أن يُسقط كل الفلسفات التي نظرت إلى «الإنسان الإنسان» (بلا كاف)، لأرض الواقع، فماذا سيجد؟ مجرّد «هراء ينبع من بداهة اللغة» لا أكثر، كائن يمشي على قدمين، له يدان، ووجهٌ بأحسن تقويم. يتكلّم، يلبس على الموضة، يأكل، يعاشر، يذهب لدور العبادة، يثمل في الحانات، يقود سيارته، يصعد في التاكسي... ولكنّ جوهره جوهرٌ «ماوكليٌّ» إذ هو يملك كلّ السمات التي يملكها أيّ إنسان نصادفه إلا أنّه ما زال يطارد في داخله ذاك المشبّه به «الإنسان».
في الغابة الكبيرة أي في ظل النظام الرأسمالي الذي يسنّ أظافر وحشيته كما يسنُّ النمر مخالبه في وعل الأدغال استعداداً منه للركض والانقضاض على فريسته، أنتَ دوماً ضحيّة، ضحيّة كنوعٍ وليس كفرد، لأنّ نوعك هو وحده القادر على أن يُكبّل بقيد النزوع الاستهلاكي النَهِم للجسد والقيم والسلع وكل ما ينتجه السجن الرأسمالي إن كان مصنعاً أو أيديولوجيا أو شركة متعددة الجنسيات. هل حصل مرّة وأن قرأت ثلاثية غرناطة؟ تقول رضوى عاشور إن ذاك الغريب الأوروبي في رحلة عودته من العالم الجديد، جلب معه- إضافة إلى بعض الحيوانات الغريبة والأعشاب والنباتات النادرة- قوماً/كومةً من السكان الأصليين لتلك الأراضي، وكانوا موضوعين في أقفاص مسيّجة ليصبحوا فرجةً للحاضرين ثمّ لاحقاً ليكونوا عبيداً وأقناناً للأوروبي. ما يعني أنه لم يتمّ التمييز بين الإنسان والحيوان. هل تظنّ الأمر اختلف عن الزمن السابق؟ لقد خلقت المركزية الأوروبية جدلية «الذات والآخر» انطلاقاً من بُعدين أساسيين. الأول يبدأ من اعتبار أوروبا موقعاً جغرافيّاً سياسياً مميزاً، والثاني قوامه أن أوروبا هي النموذج الحضاري والوصف الكوني للعقل الإنساني والنقدي. هذه الجدلية بحسب روزي بريدوتي في كتابها «ما بعد الإنسان» جعلت من«الاختلاف» مفهوماً سلبياً تمّت ترجمته إلى «الدونية» ، فأصبح «الآخر» هو الذين يُعامل كجسد يمكن التخلّص منه، باعتباره أقلّ أهمّية من الإنسان، فلو أخذنا بالقول بأنّنا كلنا بشر، يبقى أن بعضنا فانٍ أكثر من غيره. الرأسمالية بهذا الطرح تشبه، وإن كان السياق مختلفاً كلّياً، ما قاله الروائي كازنتزاكي في كتابه «تقرير إلى غريكو»، عندما كان يتمشّى مع صديقه عند أحد المنحدرات فوجد قريةً ما زال أهلُها مستيقظين، فتوقف وأشار بيده المشدودة إلى القرية وصرخ غاضباً: «سأذبحكم جميعاً». إنّ الذبح الرأسمالي لا يشترط مِديةً مادّية، إنّما سكّينه تأتي ساكنةً، هادئةً، ناعمةً، تتغلغل في الروح والرأس، في القيم والمعتقدات السلوك. فهي تسلخُ إنسانية الإنسان بهدوء تام، وبتروٍّ لا مثيل له. ربّما سيبدو مألوفاً هذا القول: «في الليل تخرج كلّ الحيوانات، المومسات والمثليون وتجّار المخدرات والمدمنون عليها، الفاسقون والفاجرون..». هؤلاء هم الحثالة كما يقول «ترافيس بيكل» (روبرت دينيرو) في فيلم «سائق التاكسي» (Taxi Driver). والحُثالة في المعجم هي نعت لكلّ رديء ورذيل؛ فأن تقول «أحثلتِ الأمُّ ولدَها» فهذا يعني: «أساءتْ رضاعه». الحثالة عند ترافيس ذو دلالة، فهؤلاء الذين يخرجون في الليل هم ضحايا نظامٍ رأسماليٍّ أساء احتواءهم، همّشهم، ورماهم في مسالخ قذارته التي أسّسها بشكلٍ مقصود. من المثير أن نقرأ في الحوار الذي جرى بين «ترافيس» والمرشّح لرئاسة الجمهورية الأميركية، حينما صعد المرشّح إلى سيارة الأجرة وتعرّف على ترافيس، وسأله المرشّح: «ما الذي يزعجه أكثر من غيره في هذه البلاد؟» يماطل «ترافيس» ثمّ يجاوب: «مهما كان، يجب أنْ تُنظّف هذه المدينة لأنّها مثل بالوعة مفتوحة مليئة بالأوساخ، ومن سيصبح رئيساً يجب أن ينظّفها حقّاً، أظنّ أنّ الرئيس يجب عليه أنْ ينظّف هذه الفوضى كما يصرّف المرء القذارة في المرحاض»، ليجاوبه المرشّح صاحب شعار «نحن الشعب»: «لن يكون هذا سهلاً، يجب أن نجري تغييرات جذرية». المهم يحضرني هنا الفيلسوف جيجك (الذي يدسّ أنفه في كلّ الموضوعات كملحق إنّما تماماً) في مقطعه الشهير حينما يتحدّث وبدهاء مدهش عن العلاقة الخفية التي تربط بين الأيديولوجيا وبين المرحاض، وبشكل أدقّ، بين عوالم ثقافية ثلاثة من جهة وبين هندسة مراحيضها من جهة ثانية، وكان قصده أن يبيّن كيف من الممكن أن تنعكس الثقافة والأيديولوجيا والنظام القيمي في أبسط يومياتنا المتكررة وفي التفاصيل التي تمرّ ولا نوليها أهمّيةً. ينتهي جيجك بعد الحديث عن مرحاض الثقافة الألمانية والفرنكوفونية، إلى أن الثقافة الأميركية/ الأنغلوساكسونية بشكل عام، جاءت هندسة المرحاض بها توافقية، فهو حوض تملؤه المياه لتطفو فيه الفضلات ولكن من دون القدرة على تفحّصها كما يفعل الفرنسيون والألمان. لا تشمئزّ يا صديقي، الأمر يتطلّب الخوض في نقاشه، فخارج الإطار هذا، نفقد الجزء الضروري من القدرة على فهم العقلية التي تجتاح ذهنية الكثيرين من الرأسماليين وهي البراغماتية. إن عدم القدرة على تفحّص الفضلات هو التعبير الأكثر تكثيفاً للفكر العملي في التخلّص من غير النافع بأكثر طريقة سريعة ومناسبة.
من أبرز رهانات تأويلية بول ريكور هي إعادة الاعتبار إلى العلاقة بين اللغة والواقع الخارجي أي اعتبار اللغة بوصفها وساطة بين الأفكار والأشياء، لذا ما ينبغي فهمه تأويليّاً هو أن القذارة التي تملأ المدينة، هؤلاء الحيوانات الليلية، الحُثالة، كلّ هؤلاء هم فضلات سلطة رأسمالية أساءت -مجازياً- رضاعة المهمّشين من شعبها، الأقلّيات، الفقراء، المدمنين، القاصرات الخ... وتركتهم عبئاً على أنفسهم وعلى ذوات الآخرين فذبحت إنسانيتهم وأبقتهم على حيونتهم، فمن هو الإنسان حين يلاحق فقط إدمانه وغريزته وإجرامه؟ فأن يمشي على اثنتين أو يدبُّ على أربعة لم يعد هذا يشكّل فرقاً، طالما الفرق المائز والوحيد بينهما قد انتُزِع منه. وعلى سبيل الاستطراد، لم يكن عبثاً ذكر إدموند هوسرل في الحوار الذي دار بين «ترافيس» وزميله في العمل، ولا سيّما أنه سبقه مشهد قصير نسبيّاً تحدّث عن كاليفورنيا باعتبارها متقدّمة أكثر من نيويورك فقط لأنّها تمنح بعض الحقوق للمثليين (وهم جزء من الحثالة في رأي «ترافيس») ، وعلى العموم، يقدّم الحوار هوسرل بالاسم حصراً، ولكنّ سياق المشهد يقدّمه بالمضمون، فالمقارنة بين ولايتين أميركيتين، ثمّ الحوار بعده، فكأنّه يحاول القول ما آمن به هوسرل في مقاله «أزمة العلوم الأوروبية» بأن «أوروبا تعلو على أوروبّا ذاتها»، وهو ما يعيد التأكيد على الذي قال به جورج أورويل بأنّ كل الحيوانات متساوية ولكن بعضها أكثر مساواةً من البعض الآخر.
إنّ فصل الإنسان العامل بالتعريف الماركسيّ عن البُنى الاجتماعية وتغريبه عن نفسه «كذات» قائمة لها اهتماماتها وشؤونها وعلاقاتها وسلوكها، تجد ترجمتها بين بعض الفلاسفة السياسيين الذين يتّفقون على أنك إذا كنتَ ترغب في تهيئة الظروف للاستبداد، فعليك أن تقطع روابط العلاقات الحميمية وأواصر المجتمع المحلّي. بمعنى أكثر وضوحاً سلخ إنسانية الإنسان والزجّ به في مملكة الحيوان ككائن لا يملك الوقت الاجتماعي أساساً لتنظيم ذاته ضمن مجموعة، ولا هو قادر على الانسلاخ عن المفروض عليه من الاستهلاك طالما غُرّب عن ذاته وعن ما تنتجه قوة عمله. لا غرو إذن أن تعاملنا الرأسمالية حسب طباعها، أي بتوحّش، فهي هنا بالتحديد قد قامت «بالتوزيع» الذي تؤمن به. فقد احتفظت بوحشيتها في عملية تراكم أرباحها، ووزّعت «حيونتها» علينا، فأصبحنا كائنات فاقدين للشراسة في المواجهة والدفاع عن ماهيتنا. ما نفعله هو أنّنا فقط نقف مكتوفي الأيدي بينما تمزّق الرأسمالية الجامحة ذاتيتنا وفتراتنا الزمنية. إنّ القاعدة واحدة، تصحّ على الحُثالة، كما تصحّ على «البروليتاريا الرثة». الاثنان يخضعان لعملية خلق رأسمالية واحدة، هما فعلُ اجتراح واحد لعمليات شتّى من الاستغلال والإهمال والتهميش. فثمّة دوماً عملية تجريد مقيتة لا نظير لها يخضع لها الإنسان في الرأسمالية. تجريد عن «أناه»، عن محيطه الاجتماعي، عن قوة عمله، عن فكره وطموحاته، عن جوهره ككائن بشريّ يتميّز عن سواه ليس بالدرجة فقط إنّما كما يفترض بالنوع كذلك. في كتابه الرائع، «الإنسان بين الجوهر والمظهر»، يشير إريك فروم إلى أزمة الإنسان الذي يتصارع للسيطرة عليه نقيضان/ أسلوبان: صراع بين أسلوب تملّك الإنسان في المجتمع الصناعي وهو مبني على الحسد والجشع والعدوان(كصفات حيوانية) وهذا النمط من التملّك هو الذي يدفع بالإنسان إلى حافّة الهاوية من الناحية البيئية والنفسيّة، وبين أسلوب آخر يتّجه نحو الكينونة ويتجلّى بمتعة التجربة «المشتركة» والقيام بالأعمال المنتجة حقّاً، ويتأصّل هذا الأسلوب في الحبّ وفي سمو القيم الإنسانية على القيم المادّية، وهو السبيل الوحيد لخلاص الإنسان من الكارثة.
في مقالٍ سابق، تطرّقت إلى حقيقة مأساوية حصلتْ في أفغانستان حيث بدأ السكان هناك من فرط جوعهم في أكل الحشائش من الطريق لأنّ الاحتلال الأميركي كعادته تفنّن في ضروب الحصار والمجاعة، في حين كانت الأبقار في بريطانيا وفرنسا وأميركا و اليابان تُغذّى «بالعلف الحيواني ذي اللحم المكثّف» ليحسّنوا من إنتاجية أبقارهم وبالتالي يرفعون من أرباحهم. وفي هذا تجاوز حادّ تقوم به الرأسمالية اتجاه الإنسان، ذلك أن الاقتصاد المعاصر في حاجة إلى السيطرة على كلّ أنواع الحياة ويزعزع الاعتقاد التقليدي بطبيعة الكائن البشري. أتخيّل المشهد برأسي فلا أقدر إلا على محو الفروقات بين الإنسان والكائنات الأخرى من فرط همجية وبؤس المشهد. تخيّل معي الانحرافة الأخلاقية التالية على قاعدة ما لا يدرك كلّه، لا يترك جلّه:
«رأيتُ أمس
حيواناً
يبحثُ عن طعامٍ
في الحاوية!
أكلَ بنهمٍ
كلَّ ما وجده
بدون أن يفحصه أو يشمّه..
لم يكن ذاك الحيوان كلباً.
لم يكن قطاً.
لم يكن فأراً.
كان إنساناً، يا ألله!» («الحيوان»- مانويل بانديرا، ترجمة: لينا الحسيني)
كنتُ أرغبُ في مناقشة طبيعة الجدلية التي يترعرع المرء وهو يطرحها، باعتبارها أحجية فلسفية تُلائم النقاش: «هل تأكل لتعيش أم تعيش لتأكل؟». هو سؤال لم يعد مهماً في غابة القرن الواحد والعشرين بهدف التمييز بين الإنسان وغايته وإرادته وبين الحيوان وفطرته وبهائميّته. ما يجب إلقاء الضوء عليه ينحصر فيما قاله عالم النفس جان لاكان: «الشيء الوحيد الذي يمكن أن تكون مذنباً في شأنه هو أن تتخلى عن رغبتك». أما أنت، القادر على الفعل، المالك للعنة القدرة، فمن الصواب لك أن تعرف، كما يقول ت.س إليوت: «أن مجدك قد يكمن في قدرتك على تحقيق لعنتك»، لأنّ أسوأ ما يمكن قوله عن الشريرين منّا، من رجال الدولة إلى السارق، إنّهم ليسوا بالقدر الكافي من الإنسانية لتتحقق لعنتهم. فالمطر الذي سيهطل ويجرف كلّ هذا الوسخ من الشوارع تحقق كحملة تطهير قام بها «ترافيس» في نهاية الفيلم. ولكنّ المهم هو ألا تتخلّى عن النية الأساسية؛ القضاء على من كان السبب في ذلك: المرشّح بالنتاين مثلاً، حاكم مصرف ربّما، برلمان على سبيل المثال، أعضاء كارتيلات الخ.. إذ إنّه من الأحسن -وتلك مفارقة- القيام بالشرّ بدلاً من عدم القيام بأي شيء. فلتقلق إذن إذا كنتَ راغباً وقادراً، هذا يعني أنّكَ ما زلتَ إنساناً.