«لا يُدرك النّاس مدى صعوبة الأمر من النّاحية الماليّة على لاعبي ولاعبات التّنس. عندما تكون من بلدٍ غنيٍّ، فإنّ العقود الماليّة مع الرّعاة ستكون أكبر بكثيرٍ، لأن السّوق أكبر، أمّا عندما تكون من بلدٍ صغيرٍ، فإنّ الأمرَ كارثيٌّ. بالنسبة إلى لاعبة مثلَ أُنْس، فقد كانت الرّحلة صعبةً للغاية، لأنّه إن لم يكن لديك ما يكفي من المال لدفع أتعاب مدرّبٍ، فإنّه من المُحال أن تتمكّن من المُنافسة »- باتريك مُراتوغلو (مدرّب سيرينا وِلْيامز سابقًا).
ما حقّقته أُنس جابر إلى الآن ليس إنجازاً، بل هو أقرب إلى الإعجاز، لاعبة التّنس التّونسية، «وزيرة السّعادة» التي أسَرت عالم كرة المضرب بابتسامتها، حملت المضرب للمرة الأولى في سنّ الثّالثة، وعندما باتت في السّادسة تيقّنت أنّ الفوز ببطولات «غراند سلام» -ولا سيّما ويمبلدون- هو الحلم الذي ستكرّس حياتها لتحقيقه. في عام 2010، وصلت إلى نهائي بطولة فرنسا المفتوحة للنّاشئات، حلّت وصيفةً، لتخضع بعدها لعمليةٍ جراحيةٍ في معصمها، ابتعدت على إثرها عن اللّعب مدة خمسة أشهرٍ، حاولت بعدها التّدرّب من أجل العودة، وعند لقاء الصحافيّين سألها أحدهم: «ماذا تتمنين؟»، أجابت: «سأفوز ببطولة فرنسا المفتوحة (2011)»، وهذا ما حصل.


تنافسيّة هي أُنس. تكره الخسارة. الخسارة تقودها إلى الجنون، بحسب تعبيرها. بنت «سوسة»، منتجٌ تونسيٌّ خالص، شكّلت مع زوجها كريم كمون، الّذي يتولّى مهمّة إعدادها بدنياً، والمدرّب كريم جلالي فريقاً؛ كأنّهم الفرسان الثّلاثة. ومن أهمِّ ما ظفرت به بطولةُ مدريد المفتوحة 2022، لتكون أوّل امرأةٍ عربيّةٍ وأفريقيّةٍ تُتوّج باللّقب. أنس لاعبةٌ استثنائيّة، ليست تقليديّة، هي مختلفة في لعبها إذ تُنَوِّعُ ضرباتِها، ولا يمكن التَّنبُّؤ بحركاتها، ما يجعل مواجهتها كابوساً. وصلت إلى ثلاثة نهائيات «غراند سلام» متتالية، اثنان في ويمبلدون، وواحد في أميركا المفتوحة، اقتربت من تحقيق حلمها، ولكنّها في كل مرّةٍ على بُعدِ خُطوةٍ، تتعثّر.
رغم أن التنس لعبةٌ فرديّة، إلا أنها تمثّل أمّةً، تونس وأفريقيا، والعالم العربيّ... تفتخر أُنس بذلك، وتحاول أن تعدَّه ميزةً، حافزاً إضافياً، إنّما لا يمكن التّغاضي عن الضّغط الذي يسببه كل ذلك. مرة وأثناء التوقيع للجمهور، قالت لها شابةٌ أفريقيّةٌ: «نريد أن تفوزي بهذه البطولة الآن»، لتردّ أُنس: «سأبذل جهدي من أجلك»، فجاوبتها الشّابة الأفريقية: «من أجلي، ومن أجل عشرة ملايين فتاةٍ في أفريقيا».
يؤثر الضغط النفسي على نشاط النواقل العصبيّة، وهي المسؤولة عن المشاعر، كالإحساس بالسعادة والغضب. ومن يتابع مباريات أُنس، يعلم أنها لا تُخفي غضبها، فهي تقوم بِرَدّات فعلٍ عند ارتكابها خطأ مثلاً، فتمتعض، وتصرخ، تناشد فريقها، تركل الكرة، وتضربها برأسها حتّى. وقد صرّحت بهذا الشّأن:
«هذا يتيح لي التّعبير عن ذاتي، لا أريد إخفاء أيّ شيءٍ في داخلي، أريد فقط التّعبير عن مشاعري». ولكن غضبها في نهائيّ ويمبلدون 2023 لم يكن بالحدّة المُعتادة. ردّات فعلها كانت باردةً، وهذا يدلّ على حجم الضّغط الذي كابدته. ومن أكثر أسباب الضّغط شيوعاً: الخوف من فوات الأشياء، والتّوقعات العظيمة.
ما يفوق خشية أُنس من خسارة حلم التتويج -كما حصل العام المنصرم- هو وابلُ التوقعات التي رجّحت كفّة فوزها في النهائي، فقد أطاحت أُنس -وهي المُصنّفة السّادسة عالمياً- بثلاث مصنّفاتٍ من العشر الأوائل في نفس النّسخة من ويمبلدون (وبينهم حاملةُ اللّقب الكازاخستانيّة إيلينا ريباكينا، التي فازت على حسابها -على حساب أُنس- في نسخة 2022) الأمر الذي يحصل للمرة الأولى منذ سيرينا وليامز 2012، لتلاقي في النّهائي التّشيكيّة ماركيتا فوندروسوفا وهي المصنّفة 42 عالميّاً!
خسارة ثلاثة نهائيّات «غراند سلام» على التّوالي، بقدر قساوته، سيزيد من قيمة الفوز المقبل، فخسارة ليو ميسي أربعة نهائيّاتٍ مع الأرجنتين (ثلاثة في كوبا أميركا -2007، 2015، و2016- وواحد في كأس العالم -2014-)، مع المعاناة التي رافقت ذلك، جعل قيمة فوزه بألقاب كوبا أميركا 2021 ومونديال قطر 2022 -وبينهما الفوز بكأس الأبطال على حساب إيطاليا- لا تُقدّر بثمنٍ.
الوصفةُ تدركها أُنس، وهي التّقبل، تقبل الضّغوط، تقبّل الخسارات تمهيداً لتحويلها لانتصاراتٍ مستقبلاً، وليس ببطولةٍ كبرى واحدة، بل ببطولات.
«وأنا دائماً أقول: نحن. الأمر أشبه بأنّني أقود سيّارةً، وآخذ معي الجميع إلى حلمي». جرى هذا التّشبيه على لسان أُنس، ولكنّ السيارة باتت حافلةً، حافلةٌ بعددٍ لا حصر له من المقاعد، والأكيد أنّها لن تركنها قبل الوصول إلى الوجهة المقصودة، ولكنني، وفي مرآب الختام، سأركن الموضوعيّة، لأقول لها باسمنا «نحن»: لو مهما كانت الطّريقُ حافلةً بالمطبّات، فإنّنا لن نترجّل من الحافلة، سنبقى جالسين في مقاعدنا، نردّد أهزوجة «يلا حبيبي».