ما اجتمع اثنان إلا وكانت كرة القدم ثالثهما. قد يجيء هذا الثالث في مديح كريستيانو رونالدو وذمّ ليونيل ميسي، أو في تأليه ليونيل ميسي وتقريظ كريستيانو رونالدو، أو قد يكون هذا الثالث مماثل في جوهره للملعب كمجال للعب والمبارزة، فيحضر كفسحة كلامية مفتوحة للمشادة الشفهية عمن هو الأفضل؛ ميسي أو رونالدو. المهم من كل ذلك أن كرة القدم، تصبو بشكلٍ من الأشكال، إلى أن تكون لغة. هذه اللغة يفهمها الجميع. معجمها في متناول اليد. مهما بدا مفهوم «التسلل» معقداً لكن استوديوهات التحليل جاهزة لتفسيره، تتكفل في توضيحه مع ضربها لأمثلة، ولإعرابها لما «بعد» الخط، لأن التسلسل لا يقع تحت الخط بل بعده.

سهولة تلك اللغة يعود على الأرجح إلى تعريف السوسيولوجي ميشال سيرس لكرة القدم. سيريس لاحظ أن كرة القدم تقام في «الملكوت الأوسط» بين «أشباه أشخاص» و«أشباه أشياء»، ما يعني أنها تجري بأقدام لاعبين لا يعبؤون بمنطلقاتهم الذاتية، وفي مباراة لا يتم تفسيرها بأسباب موضوعية. فما شغل بال الفلاسفة منذ عصر التنوير مروراً بالحداثة، عن أولوية «الذات» أو أسبقية «الموضوع» قد تجاوزته كرة القدم بركلةٍ حرة، ذلك أن لا ثنائيات راسخة هنا مهما بلغت درجات التأويل، بل تعالق وتماهي بين اللاعب واللعبة نفسها. في لغةٍ مكشوفةٍ وسائدة كهذه تستحيل الترجمة. فأساس الترجمة هو وجود لغتين مختلفتين وعالمين متباينين. تحضر الترجمة لنقل ما قاله لسان ما إلى لسان آخر، وصون الدلالة العائدة إلى الأصل، اللسان الأول، لأجل إيفاء المعنى حقه. في كون كرة القدم لغة يتماثل مع مقصدنا عندما نقول إن الفنّ، إن حصرناه بوصفه أداة مخاطبة وتعبير واستبعدنا تعقيدات الفن المعاصر والحديث، بحدّ ذاته لغة. فبإمكان محمد صلاح، المصري، أن يلعب في الدوري الإنكليزي، وهو ما حققه، مثلما يمكن لزياد الرحباني، اللبناني، أن يعزف جاز بأسلوبية تشارلي باركر، وهذا ما فعله. أما وأن الحديث يطاول كرة القدم في المقام الأول فسنكتفي بالحقل الخاص بها ونستبعد تشارلي باركر علماً أن هذه المقالة تكتب على أنغامه.
لكن التفكير في موضوع كرة القدم بشكله المعاصر، وبالتحديد فيما يجري في سوق الانتقالات اليوم، وما تشهده «النهضة» السعودية في المجال الرياضي يضعنا أمام مشهدٍ يمكننا اختصاره والتعليق عليه، بالتالي: إن إسقاط كرة القدم الأوروبية على الملاعب السعودية (كما يحدث اليوم في استقطاب وشراء لاعبين من الصف الأوّل) مع الحفاظ على جوهرها، ككرة قدم أوروبية، وممارستها وسط القيظ الذي يصيب الدوري السعودي، يقدم لنا فكرة عن عقلٍ غير ملم في استنباط اللغة، يعجز عن الغرق فيها ومعها، عوضاً عن ذلك، يفكر في اللغة عن طريق الإرغام والقبض والاستحواذ. تفكير سيخبرنا، مجدداً، عن عقلٍ مسحور بالاستيراد، يتعامل مع كرة القدم باعتبارها منتجاً قادماً من عالمٍ مصدِّر له صناعته وقوانينه، وصرفه ونحوه، أي له لغة مختلفة عن لغته. وعليه، فإتيانه بالكرة الأوروبية إلى ملاعبه، هو الإتيان بلغةٍ أخرى وتقعيدها بعد قولبتها، وهو تفكير أشبه بالترجمة، هو بالأحرى تفكير طافح بالترجمة، في كونه يتعمد تعريب اللعبة عبر العبور في «أجنبَة» اللعب ضمن سياق لا يؤهل لهذا الاجتهاد، لأن عالمين متفاوتين كان يمكن الاستغناء عن تفاوتهما قد ظهر. عندما نشير إلى الترجمة السيئة بقولنا إنها ترجمة حرفية، فنعني بأنها صاغت جوهر ما نقلته بشكلٍ هجينٍ وركيك. الأمر الذي يحدث هنا، أشبه بتغريبٍ وليس بتعريبٍ. هو استلاب كلّي لجوهر كرة القدم. إنه التعامل مع اللعبة بوصفها تمثيلاً من تمثّلات القوى. هو اعتراف بلسانٍ أفصح من غيره، فمن الأفضل امتلاكه، والنطق من خلاله، وإذا اضطر الأمر بلهجته، بدلاً من الانغماس في قواعد اللعبة حتى اكتساب البلاغة. في تعقيبه حول الترجمة اللاتينية للأدبيات الإغريقية بعد أن اشتغلها الرومان، يعلّق هيدغر: «إن هذه الترجمة الحرفية هي في الحقيقة مثول، أي نقل الاختبار الإغريقي إلى فضاء فكري آخر. يستعيد الفكر الروماني المفردات الإغريقية من دون الاختبار الأصلي الذي يقابل ما يقوله الإغريق أي من دون الكلمة الإغريقية» (هيدغر والفكر العربي، مشير عون، ترجمة إيلي أنيس نجم). إن الاختبار الذي سنسقط بامتحانه بحال أجبرنا على القيام به، هو النطق بكلمة عربية عندما يتسنى لنا الكلام عن الدوري السعودي بالمجمل، أي في تسمية اسم حارس مرمى عربي واحد، يلعب أمامه....كريستيانو رونالدو.
قد يكون من الأجدى على اللعبة، التي من المقرر أنها لغة، أن تتعلم الأبجدية عوضاً عن التكلم بطلاقة، حتى ولو استنجدت بمخلّصٍ، فاز بكل البطولات باستثناء كأس العالم، وزعم أنه الناطق الرسمي باسمها، فسيبقى تلعثمها مفضوحاً. هكذا تخرج اللعبة عن كونها لعبة، وتغدو اللغة أشبه بكلامٍ مدبلج، يبدو كلاماً كبيراً، وربما عميقاً، أمام الصاغين إليه. ومن ناحيةٍ ما، يضحو هذا التفكير أقرب ما يكون إلى انتهاك للموضوع المُفكَر به. فالتفكير بترجمة لغة يتداولها الجميع، أو ترجمة ما لا يحتمل الترجمة، إنما هو انتهاك للموضوع المترجَم. على هذا النحو، يتضح أن ثمن العقد الذي وقعه كريستيانو رونالدو مع فريق الهلال والمقدّر بـ200 مليون دولار- وهو مبلغ كفيل لصناعة رياضة بطريقةٍ أصيلة، في تعزيز مهارات الشباب السعودي، وبناء ملاعب، والعديد من الأمور اللوجستية- هو تعدٍّ على اللعبة كلعبة، وعليها كلغةٍ مأهولة للجميع، فيما كريستيانو رونالدو، وغيره من اللاعبين، ليسوا براءً من هذا الإثم. ومن ثم، فإن وجهاً من وجوه هذا الانتهاك كامن بشكلٍ مخبوء، بيد أنه ينكشف بالرغم من احتجابه، حيث الإشارة يمكن التقاط دلالتها في استقائنا للمضمر، إذ والحالة هنا تعني الإعلاء من شأن المترجم على حساب موضوعه، أي كرة القدم؛ في اعتقاده أن في المال المبذور القدرة على تحقيق اللعبة، وعلى تسييرها وهو ما يناقض بشكلٍ صارخ، معنى كرة القدم، وماهيتها.
في كتابه «فيم نفكر حين نفكر عن الفوتبول» يتطرق سايمن كرايتشلي في فصلٍ عنونه بالـ«اشمئزاز» إلى الجهة القاتمة من كرة القدم، تلك الجهة التي يغمرها المال والفساد، المذعنة لأهوال النيوليبرالية والمصلحة التي يجنيها أصحاب الأعمال لقاء استثماراتهم وراءها. لكن كريتشلي الذي ألف كتابه عام 2017 قد فاته الخبر الآتي:
«سجلّ نادي الهلال في 24 تموز من عام 2023 رقماً قياسياً عالمياً في صفقات شراء اللاعبين بتقديمه عرضاً لضم اللاعب الفرنسي كيليان مبابي إلى صفوفه بمبلغ 259 مليون جنيه إسترليني». يصلح الخبر أعلاه أن يكون الجملة الأولى من رواية تراجيدية، ديستوبية، يعتريها جوّ عارم من المأساوية، مليئة بالخراب، تجري أحداثها في منطقة تتآكلها نيران الحرائق، تبتلعها الزلازل، وأبطالها محاصرون، وتنتهي باعتزال لاعب، مستورد، على متن قارب، فيما الشخوص يموتون من العطش. ستكون رواية مشمئزة حقاً.