شكل الوعي البشري علاقته بالأحلام عبر مسار حضاري طويل، ومثلما يُشير إيريك فروم، إن الحلم بدأ كعلاقة آتية من قوّة إلهية عليا، أي إنه صُنّف وكأنه رسالة من حيّز فوق طبيعي، ومن ثم بدأ مفهوم الحلم يتطور، وراحت تركيبات الصوريّة للحلم تأخذ ما تأخذه من تأويل وقياس لمدلولاته علمياً. ومهما تبين من هذه الصور، إلا أنها تعود إلى القاعدة الأولى، المركزية، بُبعدها الديني: ثمّة رسالة وراء الحلم. تأتي قاعدة وجود رسالة وراء الحلم، في سياق ذكر أحلام الطبقة الوسطى التي ما زالت تحتمي بالكود الديني، وتتداعى معه بشكل ما، فهل يُمكن لقاعدة الحلم الأولى أن تنفذ إلى واقع اللحظة الراهنة، بأحلام كثيفة الحضور وشحيحة التحقق؟

يعتبر اللاعب المصري محمد صلاح، بشكل ما، أحد الاستثنائات الكبيرة في المجتمع المصري، بالنسبة إلى الطبقات الدُنيا خاصة، فهو حلم، وعلامة، خرجتا من حيّز المجاز إلى حيّز الواقع، ودفعت كثيراً وراءه الشعور بالإمكانية. تتجلى هذه الحالة في فضاءات المُواصلات العامة تحديداً، إذ عادت، وبصورة أكبر عن حضورها المُتزايد في السنوات الأخيرة، ثنائيات الآباء والأبناء، وثالثهما حقيبة التدريب، للتقديم في اختبارات الأندية لقطاع الناشئين. كرة القدم، التي عرفتها –وأنا من جيل النصف الثاني من التسعينيات- إلهاء عن المُستقبل والتحقق والنجاح، هي الآن، التحقق والنجاح، والحُلم بذاته، وأثر خلفه شخص واحد.

اللغة مسحوبة من ياقتها
ما الذي يجعل الحلم يسطع ويبرق ويكون مغايراً عن عادية الواقع؟ جاء هذا السؤال أولاً، عندما توفرت فرصة للكتابة عن محمد صلاح، كلاعب كرة قدم، والعلاقة بين اللغة والرياضة. لا يمكن أن يختص صلاح، بجوهر لغوي، من حيث القدرة على تغيير أفقه، إلا بجوهر لغة الحلم، فالحلم حين يُقارن بالواقع، فإن التباين يأتي في إمكانية تجاوز المحدود الزماني والمكاني، وأداة التفعيل المركزية في هذا السياق، هي «اللغة». لغة الحلم التي يُمكن أن تكون صوراً وخيالات، هواجس، وكلاماً محكيّاً أيضاً.
يأتي «الرمز» في كرة القدم -تحديداً الرمز المُتجاوز لألمعيّة النجومية العالمية- مُتجاوزاً للذات الفردية، ومُعبراً، تحديداً، عن «حلم جماعي». حينما انتقل مارادونا إلى نابولي، وبعد أن نقلهم من هامش الجنوب إلى مركز المُنافسة مع فِرق الشمال، أدمن مارادونا المُخدرات، واعتاد على السهر اليومي، لكنه كان في كل أحد، يقف في منتصف ملعب نابولي، تُشجّعه المدينة كلها، لأنه الأداة الواقعية التي تحقق الحلم البعيد. حضرت نفس الحالة في كأس العالم الفائت، حينما تصاعدت صيحات العالم فرحاً، ليس لأجل حصول الأرجنتين على كأس العالم فقط، وإنما لأن ميسي، أولاً، جاء بالكأس لبلاده، وثانياً، لأنه «أغلق» باب الأفضلية وراءه.
على اختلاف الجودة في الملعب، يحضر صلاح في نفس سياقات التأثير التي فعّلتها نماذج مثل مارادونا وميسي، وأخرى كثيرة ذكرها إدواردو غاليانو في كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل»، وخاصة في نشأة لعبة كرة القدم. بدأ صلاح بداية عادية وكانت تطوراته تقليدية، حتى تفحّشت نجوميّته في أول موسمين له مع ليفربول، والفارق الجوهري الأولي الذي أحدثه صلاح، في لغة الحلم الكُروي لدى مجتمع فقير يطفح باحتياجات النجومية مثل المُجتمع المصري، هو أن صلاح حوّل أفق النجومية في الاحتراف، من اللعب في الدوري الإنكليزي –كانت هناك نماذج سابقة وقفت عند هذا الحد، مثل اللاعب ميدو، أو عمرو زكي، أو حُسام غالي- إلى بُلوغ فضاء الأرقام القياسية الفردية، والفوز ببطولات عديدة، والتحوّل إلى نجم الفريق الأول.
لدى صلاح حوارات مرئية عديدة، يستعيدُ فيها أيام لعبه كناشئ في نادي المقاولين العرب، ذكريات مُفعمة بالحاجة والفقر وتدبير الأمور بما يُمكن من أموال شحيحة، يذكُر صلاح هذه الأشياء، وهو على مساحة بعيدة عنها الآن، وتتم مُتابعتها من خلال قطاع واسع- من الشباب المتأثر به- متعطش لنفس احتمالية التحقق. ثمّة تأثير هنا، على صعيد تغيّر اللغة المحكية، فبعيداً عن لغة المؤسسات وخطابها الذي ينتهي عند اعتبار صلاح نموذجاً وطنياً وصورة مُشّرفة، فالتغير الحاصل جوّاني، يُحيل العملية الذهنية المُتخيّلة، حينما يُفكّر لاعب ناشئ، أو يُفكّر له وليّ أمره، ويقول الآن، أن صلاح فعلها، ويُمكن للأمر أن يتكرر.
رغم أن صلاح، هو اللاعب المصري الوحيد، على امتداد تاريخ كُرة القدم المصرية، الذي وصل إلى هذا الحد من التألق والأرقام القياسية، إلا أن المُكوّن الذهني لجمهور الطبقة الوسطى –بطانة الحرفنة والمهارة في كرة القدم، كالعادة- يدفع هذه الانتقائية بعيداً، يسحبُ اللغة من ياقتها إلى حيّز مُحتمل ومُمكن، يحوّل دفة المستقبل والخلاص، من كود الارتقاء الطبقي –التعليمي- إلى كُود آخر جديد مُستحدث، وللمفارقة، مقبول ومُرحّب به.

صُور أخرى
في الأتوبيس العام الذي ينطلق من منطقة وسط البلد وينتهي بحيّ أكتوبر المُقام حديثاً في القاهرة، والذي يشهدُ انتقال الفئة المُختارة من الطبقة الوسطى، لترتقي إلى مساكن، تأخذ شكل «كومباوند»، رأيتُ رجلاً بجلباب فلّاحي، معه ابن صغير، يرتدي تيشرت ليفربول، بلا اسم، وشورتاً رياضياً، وحقيبة على ظهره. بقلق واضح، كرر الرجل السؤال حول مكان النادي، لأن الولد لديه اختبار هناك، والقادم من الأقاليم المصرية لا يعرف الطريق جيداً. ومع كل سؤال، كان يدور حوار حول مُستقبل الولد، وكذلك مُستقبل أبناء وأحفاد المُعرضين للسؤال. ثمّة دعوة كانت حاضرة، من سيدات كبيرات يُتابعن الأحاديث الدائرة «ربنا يكرم الولد ويبقى زي محمد صلاح».
هل يُمكننا أن نتوقف عند حميمية هذا الموقف؟ حتى إن سُحبت لغة الحلم من ياقتها إلى الواقع، فإنها لا تستطيع أن تفرد سلطتها المُطلقة عليه، فهناك صور أخرى، واقعية، مسنودة إلى سياق اجتماعي طافح بالهم المعيشي، يقف أمام هاجس الخيال والتطلع وصورهما. كثير من النوادي الحالية، الجماهيرية وأندية الشركات، تعتمدُ على فرض رسوم نقدية عالية لأجل تقديم اللاعبين، إضافةً إلى أن مستقبل كثير من اللاعبين – حتى في نادي المقاولين العرب الذي خرج منه صلاح- مُعرّض لخطر الإقالة في أي وقت.
إضافة إلى انحسار النموذج النجومي لصلاح، في الوقوف عند جمالية الحلم وتغيّر لغته، فهناك جانب آخر، ضروري لتتحقق النجومية أيضاً، يشملُ النقد الذي يطاول صلاح، ليس كنجمٍ فقط، وإنما كحلم خرج عن السياق وحقق نفسه، وارتقى طبقياً بفضل تحقيقه للحلم.
على امتداد مسيرته حتى الآن، تعرّض صلاح لتنويعات من السخرية والنقد في عدّة مواقف، منها واجب التعزية التي قدّمها عند وفاة الملكة إليزابيث، أو تصريحاته التي أفادت بأن المجتمعات العربية لا تملك الـ«مينتاليتي» (العقلية) في التطوّر والطموح، وكذلك دفاعه عن عمرو وردة في أحد نُسخ بطولة كأس أمم أفريقيا. تستحيلُ هذه التنويعات من السُخرية، والنقد المُبرر أيضاً، إلى هجوم على قلب الحلم ذاته، على لغته التي من المُتوقع أن تجد من يُحددها من حيثيات للواقع. فالحُلم لا يمتلك بريقه إلا بفقر احتمالات التحقق، وكذلك بتهديد زواله وعودته للانحسار في إطار «المجاز» الذي يفصله عن الواقع هوّة.
يظل صلاح، أحد أشكال التغير الفارق في طبيعة التطلّع لدى أقرانه، من نفس الطبقة، الذين كانوا محظوظين –وتُعساء أيضاً- بالنشوء وتشكيل ذات الحلم في مرحلة نجوميته، لكن ذلك التغيير لا يُمكننا أن نعتبره كامل التحقق، لأن الحلم في أقصى حضوره لا يتحقق، بتغيير لغته، على مُستوى عام، إذ إن الانتقال «الحقيقي» يشملُ نموذجاً واحداً، يُفعّل احتمال الحقيقة إلى الجماعة، لكنه عادة ما ينحسرُ إلى أضيق مساحات الحلم، وتعود اللغة إلى حالها العاجز، الحزين والكتيم، في إطار التمنّي، وأن يُكمل أحد المتمنّين هذه الحلقة، بأن يخرج منها، ويحقق للحُلم مزيداً من الحضور في الواقع المعيش.