«لا شكّ في أنه يمكن القول عن العميد إن موهبته بالغة الهجاء ولم يخلّصها من هذا الإفراط
فعصره بين جميع العصور، كان يتطلب الهجاء
ويجهل الخبث
ينتقد الرذيلة، لكن من دون ذكر اسمها
لا أحد بنحوٍ خاص يمكنه الغضب
من التلميح إلى آلاف الناس
وهجاؤه لا يستهدف أي عيب
يعجز عامة الناس عن تصويبه
لم يكن يتطرّق إلى أحدب أو ذي أنفٍ معقوف
إذا لم يقوما بدور العرّاف
ثمّة حماقة حقيقية تثير شفقته
إلا إذا زعمت أنها روحيّة.....» - جوناثان سويفت

باولو فيرونيسي، «صبيّ بين الفضيلة والخطيئة»

أتذكر أنّي حاولت مرة إجراء مقارنة بين عالم الأحكام وعالم القيم، فوصفت عالم الأحكام بأنه قاسٍ وفرداني في حين أن عالم القيم رحيم وجامع. فبينما يتطلب عالم الأحكام الاحتكام للمحاباة من أجل تحصيل قيمة الذات، فعالم القيم يتطلب الاحتكام لرأفة الإنسان بنفسه لكي يتمكن من مراعاة الآخر، وحيث يبدو عالم الأحكام قفصاً مريحاً يعتمد فيه المُحاكِم والمُحاكَم على معارفهم الثابتة المحدودة، ويتشاركون خبرات ومعارف متشابهة، يكون عالم القيم فضاء رحباً وواسعاً من التجريب والبحث والاستيعاب لدقائق الأمور وأعظمها، فيتعرض الباحث فيه لكل محاولات التعريض والتبخيس ولو لم يمسّ بمقدسات أحد.
يثبت عالم اليوم نفسه كعالم للأحكام مجانب وبعيد عن رأفة الإنسان بالآخر انطلاقاً من رأفته لنفسه أو غفرانه لما تسبّب بآلامها، لذا فهو العالم الأقرب لمقايضة المحاباة بالمكانة والقبول وما يستوجبه ذلك من ألعاب في الخفية والعلن.
وقعتُ على كتاب للفيلسوف الفرنسي باسكال أنجلو الذي أثار عنوانه «الرذائل الفكرية» فضولي. يتناول أنجلو خضوع أحكام الاعتقاد للتقييم الأخلاقي؛ هنا وإن كان الكتاب يتمحور حول ممارسة الأخلاق في معرض سَوق الاعتقاد وبنائه، إلا أن انجذابي إلى الكتاب كان بدافع أن أعثر عما يتعلق بممارسة الأخلاق في طور تجلي الاعتقاد، وبممارستها أيضاً بمعزل عن الاعتقاد أو بشكل يناقضه، وأبعد من ذلك توقعت العثور ربما على ما يشير إلى فكرة تسخير واستخدام الاعتقاد كمطية ضمنية ومخفية لاختراق الآخر الأضعف والأكثر هشاشة واستعماله. يقول أنجلو إن الحديث عن الأخلاق في الميدان الفكري يعني تقديم النصح، ومن ثم تغيير الموضوع، كما لو كان العقل بطبيعته محصناً ولا يخضع لأي تقييم أخلاقي. ويشير إلى الفلسفات التقليدية التي لم تعمل على فصل المعرفة عن الأخلاق قائلاً: «نحن نلوم رجلاً علم إذا مارس الاحتيال لكننا نلتمس العذر لفيلسوف عظيم إذا انخرط في النازية أو لكاتب مزعوم إذا أسهم في كذا كما نغفر بسهولة لمحتال فكري لأنه يكتب جيداً». وذلك أن أغلب اختراقات الأحكام الفكرية سببها، برأي أنجلو، خلط الأهداف المعرفية للاعتقاد بالأهداف العملية له، ويحدث ذلك عندما يتم صوغ الاعتقاد، وتقييمه بناء على ما يحققه من راحة وعزاء ومتعة وأي نوع من أنواع الغنيمة. يحضرني السؤال هل ما نبحث عن معرفته وجب عليه أن يوائم الأخلاق أم أن ينسجم مع الحقيقة؟ أم عليه أن يحقق أقصى النفع والغنيمة؟
يقول غوته على لسان الشيطان «مفيستوفيليس» مخاطباً «فاوست»: «إن الإنسان عالم السخف والغرور –كثيراً ما يزعم أنه الكل أما أنا فلست غير جزء من ذلك الجزء الذي كان في البدء كل شيء».«فاوست» الطبيب والفيلسوف واللاهوتي الذي لم يكن قانعاً بما يعرف، فقايض الشيطان بروحه شريطة امتلاك المعرفة الكلية المطلقة والملذات الدنيوية جميعها، فغنيمة «فاوست» التي أراد امتلاكها هي الغنيمة التي تُرغبُ خوفاً من ألا تُمتَلك. إنه خوف فاوست من عدم امتلاك معرفة وقدرة الإله. طرح أنجلو في كتابه مبدأ أسماه مبدأ «التناقض الحر» الذي تناول فيه جدلية خضوع اعتقاداتنا لحرية الإرادة أم لا، واستعان ببعض الأفكار الديكارتية لمعالجة هذا المبدأ، على الرغم من أن ديكارت يعتبر أن أساس جميع الفضائل هو التصرف الحر في الإرادة والذي يُستكمل نبله باستعمال الحرية استعمالاً جيداً، ورأى أن الاستعداد لإصدار حكم سليم هو فضيلة تتطلب ممارسة الاعتياد في طلب معرفة الحقيقة.
لكن الحال اليوم أن الحرية هي الفتيل الذي يلاحقه الخوف بالاحتراق والانفجار. يصير الضعيف هو من ينظر إلى نفسه ويجد أنه فشل في إشباع أهوائه ورغباته. فالشهرة خوف من النسيان، والتفوق ذعر من البساطة، والفردانية رهاب من العادية البشرية. لم يعد يشكل استكمال نبل الحرية باستعمالها استعمالاً جيداً أيّ هاجس حضاري وعصري، هنا يحصل الفكاك وتختفي الحرية ببعض متشدّقيها إلى الكواليس لتمتدّ مجدداً بأيديهم فتتلصّص، وتتحرّش، وتنهب، وتتملّق وتتسلّق، وتتنصّب، وتتصدّر. في حين أن اكتشاف الإنسان لهول حريته في المعرفة هو كشف عما هو موجود وعامّ، وليس سبقاً معرفياً عما هو كامن وخاص بفرد دون غيره، لذا فإن الدعوات التقليدية للفلاسفة لمعرفة الإنسان بنفسه لم تلوِ فقط على استنفار معرفة الإنسان بقدراته دون عجزه وبحرياته دون محدوديته، هنا يظهر الخوف مجدداً. الخوف من أن يتحسس البشري ضعفه فيتقلص إدراكه لحريته أو يتقلص مداها، فالخوف من عدم حوز حرية مطلقة يصبح خوفاً من التنازع عليها. تبدو العلاقة بين المعرفة والحرية هي جوهر فردانية اليوم التي تجنح إلى تغبّ وتعبّ كل ما يحقّق للفرد سلام التفوق، وامتياز التفرد بما لا يملكه الغير أو ما لا يستطيع امتلاكه، إنه التنافس المضمر على الخوف الذي أصبح وقود السرعة، والتسارع، والدفق، والركض، واللهاث، والتعرق، والسبق، والحيازة، والامتياز، والتفوق.
يبدو أن إدراك الفرد لقدراته في حوز المعرفة لا يستطيع أن يحول دون عجزه في توظيفها، كما لا يستطيع أن يقف في وجه تغول إرادته أو استخدامها بشكل وحشي وبارد في التعامل مع البسيط والضعيف والهش والعادي. التنافس المضمر على الخوف أصبح تنافساً مضمراً على الخلود، لذا لا يتوانى الجميع أن يبعث في الجميع الذعر والخوف. إنه سباق على التهام الحرية ونهش المعرفة. إنّي أرى «مفستوفيليس» وقد أصبح روحاً مذعورة، يركض بسرعة، خائفاً من السباق أو اللحاق به، ويتمظهر جاداً بأنّه روح الأرض أو بإنه إله أصابه الهلع، وأقول: لقد تغوّل الإله؛ لقد أخفناه جميعاً.