في إحدى حلقات «سيتكوم» الأمريكي الشهير «ساينفلد» الذي احتلّ الشاشة على مدار التسعينيات، يجادل «كرايمر» جاره «جيري» عن الجدوى من وراء عرض مسلسل كوميدي تدور فكرته حول سيرك للأشخاص غريبي الأطوار والمنظر (Circus freaks). فالبشر لطالما أحبوا التفرج على هؤلاء المسوخ -كما يقول «كرايمر»- في السيرك، حتى إنهم يدفعون ثمن التذاكر من أجل رؤية امرأة بشارب ورجل رأسه يكاد ينفجر إزاء ضخامته. لكن «جيري»، كالعادة، لا يأخذ «كرايمر» الساذج على محمل الجدّ. المفارقة في هذا المشهد تنكشف الآن، فقد أصبحنا نشاهد عروضاً يومية على منصات التواصل الاجتماعي، وبالأخصّ على فيسبوك وتيك توك، لأشخاصٍ من ذوي الإعاقة، وكأنهم في سيرك فعلياً، هدفه الترفيه عنّا نحن الأصحاء، حتى إن الحُرمة التي لطالما أحطات بالشخص من ذوي الإعاقة باتت في خبر كان، وفكرة عدم السخرية منه لأنه من خلق الله ولأنه «بركة» أرسلها الله لخلقه سقطت.
تود بونينغ، «غريبي الأطوار».

استطاعت التحديات التي تجري الآن على تيك توك أن تخلق بكل سهولة سيركاً حقيقياً أبطاله الأشخاص من ذوي الإعاقة، ذلك لكي يُرسل المتابع الثري بكرشه المُكتنز، رمزاً يأتي على شكل حوت أو أسد، أو وردة... أشكال متعددة، بيد أنها عبارة عن عمولات نقدية افتراضية، وهي ممارسة تشبه «النقطة» التي تلقى على راقصة التعري. والتحدي يجري على الشكل التالي: يقوم الطرفان المتحديان بعضهما بإهانة بعضٍ حتى النهاية، وإخراج أكثر ما هو حيواني من باطنهما بغية إذلال الآخر أمام الكاميرا من أجل حصد إعجاب المشاهد الذي سيرسل بدوره رموزاً لقاء ضحكاته وتسليته. والرموز يمكن تصريفها إلى دولارات، وفي بلد مثل مصر يعاني من أزمة تضخم في عملته فإن الدولار يصبح سيد الجميع. في البدء، قد يبدو هذا المشهد مقبولاً على الرغم من ابتذاله إذا ما خرج من شخصين كاملي الأهلية، إلا أن هذا التواطؤ بين المشاهدين وبين «الأبطال الأصحاء» لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما وجدنا أن ذوي الإعاقة قد اقتحموا ذاك العالم ودخلوه وأصبحوا من أشهر الفاعلين فيه، فأصبح المشهد مؤلماً بحق بل مثيراً للازدراء!

الإعاقة من التعاطف إلى السخرية المُربحة
عمر فرج الأهلاوي مريض العظام الزجاجي. منذ ثلاث سنوات لم يكن يعرفه الكثيرون. كان وجوده في الفضاء المرئي مجرد قضية لحالة إنسانية جوهرها طالب يُكافح من أجل تعليمه بظروفه الخاصة، لا يحب في الدنيا من بعد والدته أحداً أكثر من نادي كرة القدم المصري الأهلي. بذلك الـ«فيتشر» البسيط الذي عرض عنه على إحدى القنوات الفضائية، استطاع عمر فرج أن يستقطب التعاطف من قبل العديد من المشاهير، من أمثال اللاعب محمد أبو تريكة والمغني تامر حسني. فتح النادي الأهلي أبوابه له وأعطى عمر تذكرة مجانية لحضور مبارياته في أماكن مخُصصة لذوي الإعاقة الذين تلتقطهم الكاميرات بعد كل هدف يسجله النادي الأهلي لترصد احتفالاتهم وانفعالاتهم. وفي إحدى المباريات التي جمعت النادي الأهلي بنظيره الهلال السوداني في بطولة إفريقيا من هذا العام، قرر أحد صانعي الـ«ميمز» في مصر أن يعتبر احتفال عمر فرج، ورقصته بعد الهدف، مشهداً صالحاً لأن يصبح مادة مناسبة وصالحة للـ«ميم»، وهذا ما ما حدث بالفعل. فجأة انتشر عمر كالنار في الهشيم حاملاً وجهاً آخر: وجه المهرج... وكأن رقصته كانت تهريجية مضحكة وليست احتفالاً نابعاً من القلب لفريقه.
بعد تلك الشهرة اقتحم عمر عالم التيك توك، وأدرك أن تلك الكاميرا التي رصدت احتفاله وحركات أعضاء جسده الغريبة بسبب إعاقته يمكنها أن ترصده يومياً في المنزل وتجعل من إعاقته مدراراً للدولارات، وهو ما حدث حتى أصبح عمر فرج واحداً من أشهر «تيكتوكرز» في مصر. في حقبة ما قبل عمر فرج كان ينشط «تيكتوكر» آخر، يدعى عبد الرحمن وحيد، وهو مقطوع اليدين، كان يستغل إعاقته لجلب الضحك والمشاهدات من خلال الرقص والتصفيق بيديه المقطوعتين، تحول عبد الرحمن وحيد مع مرور الوقت إلى «ميم» يمكن استخدام لقطاته للسخرية من حارس مرمى فريقك الذي يزعجك بضعف مستواه، أي أنه مقطوع الأيدي، وفي هذا ما يُضحك!

«كلاسيكو المعوقين»
في إحدى التحديات على التيك توك، التقى عمر فرج وعبد الرحمن وحيد في تحدٍّ يمكننا أنه نشبّهه بمبارايات كرة القدم التي تحمل طابعاً تنافسياً محتدماً. تحدٍّ يمكن توصيفه بـ«كلاسيكو الإعاقة» حيث احتدم التنافس بين الشخصين من ذوي الإعاقة وراحا يتباريان في السخرية من بعضهما البعض، وكأنه التحدي الأخير لما يُمكن أن تصل إليه الإنسانية من اسفاف، وهزل، وحيونة. طلب عمر من عبد الرحمن في حكمه الأول عليه أن يقص أظافره، فطلب عبد الرحمن من عمر أن يُقبل يده، فأجاب عمر: «لا دي ما فيهاش صوابع» وضحك لأنه قصف جبهته. ثم يقوم عبد الرحمن بدوره بالردّ، ويطلب من عمر أن يقف على قدميه، وهو لا يستطيع بالطبع بسبب إعاقته، فيما المُشاهد من وراء الشاشة فيضحك ويضحك ويقوم بتفعيل الـ«سكرين ريكوردينغ»، أي تسجيل المشهد المصور على تلفونه من أجل إعادة استخدامها في صناعة الـ«ميمز». تحدٍّ انتهى بفوز الطرف الذي أسرف في إهانة الآخر، لكن كليهما في النهاية، عمر فرج وعبد الرحمن وحيد، ربحا الدولارات والمشاهدون ربحوا الضحك أيضاً، بدون ذرة إحساس بالذنب تجاه ما شاهدوه.
ليست ظاهرة عمر فرج وعبد الرحمن وحيد هي الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة. فمنذ اجتياح فيديوهات «اليوميات» التي تعكس لحظات حياتنا وتسجلها عن طريق تطبيقات الفُرجة ونحن نرى «الرُبع والكحلي» والسيد «كوكسال بابا» و«امح الدولي» كممُثلين في سيرك للمُسوخ، وظيفته الترفيه عنّا. ولأنهم راضون بأفعالهم فقد أعفينا أنفسنا من الشعور بالذنب تجاه ما نشاهده وما نفعله، بالتواطؤ، معهم.
يمتلك البشر نزوعًا تجاه السخرية من الآخر مهما كان هذا الآخر، المهم ألا يكون «الأنا». فلا يُمكن للإنسان أن يضحك على موقف أشعره بالإهانة في نفس الوقت لذلك نشأت ثقافة الإعلان في البداية مركزةً على غباء السيدات وسذاجتهم في شكل مُلصقات ساخرة كتبها رجال ورسمها رجال ونشرها رجال. وقد كان صاحب البشرة السوداء محط للسخرية في أفلام يصنعها البيض دائماً، وفي ثقافتنا العربية، لطالما عُرض مثلي الجنس في السينما كشخصية كاريكاتورية ظهرت في العديد من الأفلام في دور «شخص عايق» أو «صبي عالمة». وحتى الأقزام كان لهم نصيبُ كبيرُ من السخرية في أفلامنا ومسلسلاتنا ولو أثار هذا التصوير جدلاً أخلاقياً في بعض الأحيان بسبب أخلاقية دينية في ثقافة المجتمع العربي أساسها (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم). في الوقت الحالي، تحيط بالمُشاهد الكثير من الصوابيات التي تجعله لا يستطيع أن يسخر من «الآخر»، ولكن التيك توك قد أتاح فرصة ذهبية لخرق ما لا يجب القيام به، واستطاع أن يكون فسحة لتفريغ هذا النزوع الإنساني في السخرية من الآخر، والتعامل اللاإنساني معه. إن كنت شخصاً من ذوي الإعاقة ولا يوجد لديك ما تتشبث به من الأساس فبإمكان الكاميرا أن تصنع منك نجماً مقابل أن تجعل من مأساتك «اسكتش» كوميدياً، أما أنت أيها المُتفرج فلا ذنب لك في مشاهدة ما تشاهده، فاستمتع بدورك كضاحك. وتزداد تلك «الرغبة» في صناعة هذه التحديات، وفي مشاهدتها في الوقت عينه، كلما ضاقت الأوضاع الاقتصادية والسياسية. فأصحاب الإعاقة يغيب عنهم أي غطاء حكومي يكفل لهم حياة كريمة ويعفيهم من سلوك مسالك تودي بهم إلى أن يكونوا مهرجين في سيرك وأن يصنعوا من أنفسهم أضحوكة لإعالة أنفسهم. يلعب العامل الاقتصادي وغياب الحياة الكريمة دوراً في ظاهرة أخرى تكمل عرض «المسوخ» الذي حلم به «كرايمر»، وهنا أتحدث عن الـ «شبيه».

بلد المليون «شبيه»
لم يكن أكثر الفلاسفة تشاؤماً ليتوقع أن تصل ظاهرة «الشبيه» تلك إلى حالة التماهي والانسحاق التام من الشبيه مع شبيهه كتلك الحالة التي تسود في الفضاء المرئي المصري، حتى إنه يمكننا القول إننا نعيش عصر «الشبيه» بامتياز. لا تبحث عن اسم أحد من المشاهير في مصر ربما إلا ووجدت له شبيهاً، ضِف عليهم نجوم كرة القدم العالمية، حيث أشهر الأشباه في مصر الآن هو شبيه كيليان مبابي.
لقد استفادت الكاميرا من ظاهرة «الشبيه» منذ البداية، وهو الذي عرف باسم «الدوبلر»، أي ذلك الذي يلعب الأدوار الخطيرة للممثل في زوايا الكاميرا الخلفية والجانبية وحتى الأمامية، ولكن بعد أن ينتهي عمله كان يعود «الدوبلر» إلى حياته الطبيعية. ولكن في عصر التيك توك، إننا لا نعرف عن «الشبيه» أكثر من كونه شبيهاً، إلى درجة أنك تتساءل هل لهؤلاء الناس حياة فعلية وبطاقة هوية شخصية تحمل أسماءهم الحقيقية؟ وكيف أصبح يتعامل معهم ذووهم؟ تتوه في دائرة من الأسئلة ربما لا ينشغل بها «الشبيه» نفسه، هو الذي قرر أن يعيش في ثوب غيره. تكمن المفارقة في هويته التي اختارها كـ«شبيه»، إذ أن يكون شبيهاً فذاك قد صنع له حياة لم يكن يحلم ليعيشها بـ«أناه» الخاصة، أو هويته الحقيقية.
تفتح الدنيا أبوابها أمام «الشبيه» لكونه شبيهاً. لا يُمكن لقصر مطعم الكبابجي أن يأتي بكيليان مبابي ليأكل عنده بالطبع، ولكن بإمكانه أن يأتي بشبيهه المصري الشهير ليقوم بالإعلان عن المطعم في إعلان سينتشر على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب مفارقته المضحكة. يمكنك أيضاً أن تشاهد حفلة لشبيه مغني الراب ويجز إن كنت لا تقدر على حضور حفلة ويجز.
ولكن لا مفرّ من أن تقضي حياة التشبّه تلك على هوية الشخص الأصلية وتسحقها. في وقت من الأوقات، كان شبيه محمد صلاح، كريم عادل، بمثابة نجم، إذ وصل مع خمسة أشخاص آخرين إلى اللائحة القصيرة لمن هم من أشباه محمد صلاح. وقد وصل الأمر بكريم عادل إلى المشاركة كـ«دوبلر» في إعلان شركة بيبسي بوصفه بديلاً من صلاح. حتى إن فكرة الإعلان نفسها كانت قائمة على تعدد أشباه صلاح. والآن أين انتهى كريم عادل؟ لقد أصاب التيك توك كريم بلوثة عقلية تقشعر لها الأبدان. في كل يوم من تحديات التيك توك يُقدّم كريم مستوى أكثر ابتذالاً من إثارة الشفقة، وسحق كرامته كإنسان من خلال التذلل من أجل حصده رمزاً يمكن فكّه إلى دولارات. ما تلاحظه في هؤلاء «الأشباه» أنهم من أبناء الطبقات الفقيرة في مصر، وذلك ربما كان الحافز الأكبر الذي حثّهم على أن يهربوا من حياتهم إلى حياة «الشبيه» وما ستفتحه عليهم من أبواب للشهرة والترقي الطبقي، ووفرة المال، في ظل ثقافة تسود فيها التفاهة. التفاهة المتعمّدة من النظام الحاكم ذاته الذي قتل الصحافة الجادّة وجعلها صحافة تعتمد على التقاط الأشباه وتتبعهم في كل مكان في مصر بدلاً من تتبع الفساد، فيصبح الفيديو الأكثر انتشاراً على منصة صحفية مصرية هو فيديو يحمل عنوان: «شاهد شبيه كريم محمود عبد العزيز». لن يحفل أحداً بمحاولة التقييم الأخلاقي لما تجنيه طرق جمع الأموال السهلة تلك. ففي أوقات العوز ينشغل الانسان بجني المال والخروج من بالوع الفقر. في الواقع، ليست السخرية من الإعاقة وظهور جيوش الأشباه سوى مشاهد متنوعة من مجتمعات بدأت بالتفسّخ التام.