في ملحمته الخالدة «معركة الجزائر» (La battaglia di Algeri) يُخلّد المخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو كلمات الشهيد العربي بن مهيدي قبل لحظات من إعدامه في حوار مع أحد صحافيي فرنسا. يأتي الحوار على الشكل الآتي: «- سيد مهيدي، أليس من البربرية استخدام حقائب نسائكم لحمل القنابل المتفجرة التي تحصد الكثير من أرواح الأبرياء؟
- ولكن، أليس الأكثر بربرية قصف قرى وأحياء يقطنها العُزّل بالنابالم وحصد أرواح مئات، بل أضعاف مئات أرواح الذين تقصدهم؟ من الواضح أن الطائرات كانت لتجعل عملنا أسهل. لذلك، لم لا تعطونا طائراتكم سيدي، ونعطيكم حقائبنا؟».
كان من حظ العربي بن مهيدي أنه وقف في وجه جلاديه وواجههم بتلك الكلمات قبل إعدامه. إن العربي بن مهيدي لم يشعر بطعنة خيانة تأتيه من الخلف. لقد كان في حالة من الهدوء والثقة لأنه واجه عدواً غارقاً في الوحشية والاستعلاء. ولكن، لو كان العربي بن مهيدي حياً في زماننا، لوقف أمام «الإنسانويين» من بني جلدته ليحاكموه، وليغرقوه بأسئلتهم المغرضة، لكنه لم يكن ليتكلف عناء الرد، كان على الأرجح اكتفى برفع حذائه على الطاولة كما فعل خروتشوف مرة.


هكذا هي المقاومة الفلسطينية التي تعلو أصوات صواريخها في آذان الصهاينة، وفي آذان «الإنسانويين» الذين يدّعون مساندتهم ووقوفهم مع قضية فلسطين. تلك النخبة بلوثتها العقلية ترى أنها تخدم القضية عبر التصويب الأخلاقي، فتطلق النصائح حول معاملة النساء، وأخرى عن الأطفال، وتتقيأ من فمها أحاديث عن لا أخلاقية قتل المستوطن الإسرائيلي، وترى أنها بذلك تخدم القضية الفلسطينية، وهم بخداعهم للمقاومة لا يخدعون إلا أنفسهم. إن تلك الترّهات لا يُمكن التعامل معها سوى في سياق واحد: إنها محاولات حثيثة لنيل الاعتراف. فمطالبهم تلك والتي يبررونها ليست خنوعاً، إنما مردّها الأساسي صورة النضال الفلسطيني في الإعلام الغربي، بيد أن تلك الكلمات لا تعبّر عن نظرة قاصرة فقط، بل قل خبيثة حيال الموضوع.
دائماً ما كان الإعلام الغربي، منذ وقوع النكبة، واقفاً تحت الشمس زوراً في موضع الحق والعدل! فقبل «ميونيخ 72» و«عنتيبي» و«لوفتهانزا رحلة 181» التي خلقت صورة مشوّهة عن النضال الفلسطيني باعتباره نضال مجموعة من الإرهابيين، كانت القضية الفلسطينية تناضل في حالة من الطهارة ولم يلتفت الإعلام الغربي يوماً.
لا يفهم «الإنسانويون» لغة «الانتحار الثوري» الذي يواجه «الصمت المتغطرس» للقوى الغربية في وجه معاناة العالم الثالث. دائماً كانت الهجمات الانتحارية التي يقوم بها الفلسطينيون شوكة في حلق «الإنسانوية» العربية، إذ ربطتها كظاهرة تنزع نحو التطرف، وغاب عنها ما يقوله جيش الاحتلال نفسه، إذ ينظر إلى تلك الظاهرة على أنها محاولات حاسمة تبغي النصر. وهو ما يتشابه مع ما يحدث تلك الأيام، حيث يتحدث «الإنسانويون» عن جرائم حماس وقطع مزعوم لرؤوس أطفال من الأسرى الصهاينة، ما أنكره الإعلام الإسرائيلي بحد ذاته. ولم يكن كافياً لدعاة الإنسانوية للاعتذار. من قبل أيضاً أحصى جيش الدفاع الإسرائيلي أن 4% من الهجمات فقط هي هجمات انتحارية استهدفت مستوطنين داخل إسرائيل، أما البقية فكانت تستهدف المستوطنين في الضفة الغربية والجيش الإسرائيلي. لقد غاب عن «الإنسانوية» تتبع جذور تلك الظاهرة. بالطبع لم يكن «نمور التاميل» القوميون الانفصاليون في سيريلانكا مسلمين بأي حال، وهم من ابتكر الهجمات الانتحارية كوسيلة للنضال، وأعلنوا مسؤوليتهم عن أكثر من 300 عملية انتحارية خلال عقدين من الزمان. في لبنان أيضاً وكما أحصى روبرت بيب الذي رأى أن 38 هجمة انتحارية في الثمانينيات نفّذها 8 مسلمين و3 مسيحيين و27 علمانياً واشتراكياً، وقد أحصى تلك الظاهرة لنفي أي ارتباط بين الانتحار الثوري والدين. لا يعدو الانتحار الثوري أكثر من كونه استجابة سياسية للاحتلال العسكري للأرض. ولكن «الإنسانويين» يحاولون دائماً التصرف كالرجل الأبيض، أو كما يقول إدوارد سعيد مدركاً حول التصرف كـ«أبيض» في التعاطي مع القضية الفلسطينية: «إن كل ما كانوا يريدونه هو أن يتم قبولهم، لم يكونوا معنيين بالقتال، أو بالمساواة، كل ما أرادوه أن يُبدي الرجل الأبيض رضاه عنهم، هذا كل ما يبتغون، أو كما يقول فرانز فانون عن ذوي البشرة السوداء والأقنعة البيضاء: إنهم متهالكون على أن يكونوا بيضاً!».
فيما يتعلق بالانتحار الثوري أو الحلول الجذرية الاضطرارية في إجلاء المحتل، لا يلتفت «الإنسانويون» إلى أن إسرائيل تمتلك خيارها الانتحاري كذلك المعروف باسم «خيار شمشون» الذي ينهيها مع جيرانها كفضيلة عن الوقوع في الأسر أو الهزيمة. فالانتحاري في الكتاب المُقدس هو شخصية مبجّلة. وهنا ننظر في قصة شمشمون القاضي الذي مات وهو يهدم معبد داجون على زعماء «الفلستين» ولم يحزن كاتب قصة العهد القديم لأجل دوافعه، بل احتفى بشجاعته: «ببطولة هائلة، أنهى شمشون حياته البطولية». وها هو جون ميلتون في دراماه عن شمشون وعذابه، يكتب محتفياً ما يستحقه اليوم أبناء المقاومة رغم أنف الكارهين: «لا شيء هنا للبكاء، ولا شيء للنحيب، لا تلطموا صدوركم، لا ضعف هنا ولا هوان، لا يأس ولا لوم، كل شيء هنا حسن وجميل، ما المحزن في موت بهذا النبل؟».
لا يلتفت «الإنسانويون» إلى العنف السياسي بوصفه متجذراً في البنى السلطوية الغربية في عصور التنوير وما قبلها وما بعدها. لم تكن الدول الأوروبية يوماً تحل مشكلاتها من دون العنف بل وعلى نحو راديكالي لا أخلاقي أيضاً. في الواقع يُمكن تفهّم ذلك والعودة إلى ما قاله طلال أسد: «يمكن النظر إلى التفجيرات الانتحارية على أنها تنتمي إلى تقاليد الغرب الحديث للصراع المسلّح للدفاع عن المجتمع السياسي الحر، ففي سبيل الحفاظ على تراث الأمة (أو تأسيس الدولة) في مواجهة عدو خطير، ربما يصبح من الضروري أن يتصرف الفاعلون من دون أن يكونوا مقيدين بالقيود الأخلاقية التقليدية». وإضافة إلى ذلك، إن المقاومة الفلسطينية تحاول في كثير من الأحيان أن تقيّد نفسها بقيود أخلاقية تقليدية في الوقت الذي لا يكف عدوها عن قصف كل ما يراه أمامه من دون إدانة واحدة من أب العالم والعم سام!
نتشارك نحن و«الإنسانويون» في أمر واحد هو أننا لسنا مقاتلين، في حين أننا نختلف كثيراً عنهم، إن كان في دعمنا المطلق لكل أشكال المقاومة والعنف الثوري، أو مواجهة التثبيط. ونتشارك كلنا أيضاً في أننا لا يمكننا أن نرى الصورة بصورة واضحة طالما أننا لا نحمل بندقية كلاشنكوف ولا حتى غصن زيتون. حضرت ماري الصحافية الفرنسية، صديقة الصحافي مايكل هوجز الذي سجل مشهداً في كتابه عن الكلاشنكوف، لحظات لهجوم إسرائيلي بطائرات هيلوكوبتر الأباتشي على الضفة الغربية. وبعد أن دمّر صاروخان كل المنطقة وحلّ الخراب، رأت ماري مجموعة من الرجال الفلسطينيين الذين وجهوا الكلاشنكوف تجاه الطائرة وبدؤوا بإطلاق النار، على الرغم من أنهم يعلمون أن إطلاق نار هذا لا فائدة منه. رأت ماري أن هذا التصرف يخدم الإسرائيليين، ويجلب للفلسطينيين المزيد من الدمار، قائلة لصديقها المصور بيار إنهم كـ«الأطفال»، ليقول لها: «إنهم يفعلون ذلك ليُخرجوا الناس من بيوتهم». لم تقتنع ماري وقالت: «لكن هذا جنون، إنه يجعل الأمر أسوأ، ستزدحم الشوارع بالجموع ويتعذر على سيارات الإسعاف الوصول إلى المنزل المنكوب». لم تفهم ماري بعد كُنه هذا الفعل ولكن بيار الذي كان أكثر حلماً ويعرف الفلسطينيين جيداً قال لها: «إنها جزء من مقاومتهم، هكذا يعلنون عن تحدّيهم للإسرائيليين، وإنهم يقولون لهم عبر إطلاقهم النار بالكلاشنكوف إنه لا يمكنكم أن تهزمونا، ثورتنا أقوى من صواريخكم وأسلحتكم. بالنسبة إلينا كأوروبيين من الممكن أن يكونوا على خطأ، ولكنهم لا يتوقعون أن ينتصروا في هذه الحرب بعد الآن، بل إنها ليست مسألة حرب، بل مسألة كيف يعيشون والكلاشنكوف في أيديهم، كل سنة يخسرون كسرة صغيرة، كل سنة يعاقبون لأنهم على قيد الحياة. ولكن كل ما يقدرون عليه هو محاولة التأثير على الطريقة التي يخسرون بها، فهم لا يكفون عن الغضب، قد يبدو التلويح بالأسلحة في أماكن مقصوفة بالقنابل ضرباً من الجنون لكن البنادق هي كل ما يملكون وهو ما يؤكد القول بأنهم غير مهزومين تماماً، فهم رجال والفلسطينيون شعب». يمكن معذرة ماري لكونها أوروبية لم تُعجن ولم تُخبز في أفران الحرب الفلسطينية الإسرائيلية. ولكن «الإنسانويين» الذين سيُقتلون على هويتهم العربية إذا واجههم إسرائيلي، فما عذرهم؟ إن الأكثر تبجحاً هو أنك تجد منهم من يصمت تجاه أطفال غزة الذين يرتقون إلى السماء نتيجة القصف المتواصل، وتجاه شعب غزة الذي تعيش الطيور حياة أفضل منه بكثير، في الوقت الذي يتماهون تماماً مع السردية الغربية. إن خطورة «الإنسانويين» علينا هو أنهم ينطقون لغتنا. تقول "جاكلين روز" عالمة النفس البريطانية: «تصدمنا التفجيرات الانتحارية ولكن هل يجب أن تصدمنا أكثر من موت آلاف الأطفال في أوطانهم كل عام بطائرات من دون طيارين؟ إن إسقاط القنابل العنقودية من الجوّ ليس أقل بشاعة من التفجيرات الانتحارية ولكنها بطريقة أو بأخرى تعتبر عند الغربيين على الأقل، طريقة متفوّقة أخلاقياً للقتل».