جمعَت طاولة العشاء الأخوين ريتشارد وموريس ماكدونالدز مع رجل الأعمال الأميركي راي كروك، حاول أثناءه الأخير إقناع الأخوين بالتوسّع، بالامتداد والتوغّل، بغزو العالم وعدم الاكتفاء بفرع واحدٍ في كاليفورنيا. كان الأخوان ماكدونالدرز قد انتقلا إلى كاليفورنيا مع عائلتهما، وعملا في أحد استديوهات الرسوم المتحرّكة، ولكنهما مع نجاح «الفود تراك» الذي أنشأه والدهما باتريك وتحوّله من باص جوال يقدّم الطعام إلى محل بعد بضع سنوات، انتقلا إلى العمل معه وسعيا إلى تطوير المشروع؛ أعادا تصميم المطبخ بحيث تكون الحركة فيه سلسة، وقسّما العمل إلى مراحل لتُقدّم الشطيرة بأسرع وقت ممكن. اشترى الأخوان ماكدونالد عشر ماكينات «ميلك شيك» من المندوب كروك، وهو الذي كان بالكاد يبيع واحدة. اقترح كروك أثناء العشاء فكرة بيع «حق الامتياز» أي بيع حق الاسم للمستثمرين مقابل نسبة من الأرباح بشروط وحدة السعر والمواصفات وقائمة الطعام. وكانت الفكرة هذه حديثة في الخمسينيات، وأدار كروك بنفسه عملية بيع حقوق استخدام الاسم، إلى أن اشترى حصة الأخوين لاحقاً مقابل 2.7 مليون دولار. وعندما سألاه عن السبب في عدم إنشائه مؤسسة مماثلة رغم تشرّبه نظام الجودة الذي يعتمدونه، أجاب إن الاسم ناجح، والاسم الناجح يجذب الجميع.

كانت مهمة الإنسان اليومية قديماً هي السعي الدؤوب إلى البقاء على قيد الحياة. البقاء في «دار الفناء» أو كما يقول عالم النفس، الذكوري السمج، جوردان بيترسون «العيش بين عالمين»، العيش بين متناقضين لا يلتقيان. كانت المهمة البحث المستمر عن موارد للأكل والشرب، والنوم والاحتماء من الكائنات المفترسة. تنامت اكتشافات الإنسان عبر الزمن، وتغيّرت طريقة حياته واستهلاكه. ففي ثلاثينيات القرن الماضي تحوّل من إدارة الندرة إلى إدارة الوفرة، إذ صار عرض السلع يفوق الطلب عليها، ما يؤدي إلى انخفاض الأسعار، وبالتالي إلى تقلّص الاقتصاد. تدخّل هنا إدوارد بيرنايز كاتب كتاب «البروباغندا» والذي استغل ما توصّل إليه خاله سيغموند فرويد ووظّفه في الدعاية والإعلان فقام بتعديل بسيط؛ محا الخطّ الذي يربط الاستهلاك بالحاجة، وقام بتوصيله إلى الرغبة، فالحاجات محدودة، أما الرغبات فلا نهائية. ربط السلعة برمز لرغبة ما ليتولّد مفهوم العلامة التجارية أو «البرند». والبرند البراقة تجذب المستثمر والمستهلك إلى شبكتها.
ماكدونالدز بصفتها برند، لها أصحاب ومستثمرون ومستهلكون. اعتمدت الحرف الأول من اسمها لوغو لها «M» بشكل سيمتري، والسيمترية أو التناظر هي من السمات الشائعة في الكون، فنصف وجهك الأيمن يكاد يطابق الأيسر، إلا إذا كان أنفك معكوفاً. الأنف المعكوف يُفسد السيمترية لكن «المخ المعكوف» بتعبير زياد الرحباني في مسرحية «فيلم أميركي طويل» لا يُفسدها. فالمخ مُحصّن في الجمجمة، و«عكفته» تتبدّى في التصرفات وليس في الشكل. ومن تجلّيات عكفة المخ «الاستهلاك التفاخري» حيث الهوس بالبرند: الإدمان على جرعة الاستهلاك التي تمنح ضخّاً مكثّفاً للدوبامين ما يمنح سعادة مؤقتة. سرعان ما يزول مفعول الجرعة، ويبدأ السعي لتأمين ثمن الجرعة المقبلة، حتى لو وصل الحال إلى الاستدانة، فالمستهلك معلّق بحبال شبكة البرند.
في الأيام الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة، وزّع فرع ماكدونالدز في فلسطين المحتلة وجبات مجانية للجنود الصهاينة. وجبات لم تكن مغمّسة بالزيت، بل مغمسة بالدم. شحذ الفرع الكائنات المفترسة بوجبات سريعة ليتفرّغوا بعد اِلتهامها إلى القتل السريع والجماعي. وأهالي غزة يسعون إلى البقاء. البقاء في «دار الفناء» فهم يعيشون بين عالمَين حيث إدارة الندرة، ندرة الغذاء والماء، ندرة النوم والاحتماء. يقول دوستويفسكي على لسان شخصية إيبوليت في رواية الأبله: «في القرن الثاني عشر كما يؤكد الكُتّاب، كانت المجاعات تحدث كلّ سنتين أو ثلاث، وأصبح كثير من الرجال يلجؤون إلى أكل لحوم البشر، ولكن بطرقٍ سرّية». بتنا في القرن الواحد والعشرين وما زال أكل لحوم البشر شائعاً، مع اختلاف بسيط، هو أنه لم يعد مرتبطاً بالحاجة كالمجاعة بل بالرغبة كالسادية، وبشهية مفتوحة لا تُسدّ، بشراهة تفوق شراهة «عمي بو مسعود». ولكن الطُرق الآن لم تعُدْ سرّية بل علنية ومعروضة على نحوٍ مباشرٍ أمام أنظار العالم، العالم أجمع. ودول العالم إن سمعت صوت الأنين، إذ هي تشعر بالحنين، تهرع إلى شراء الأسلحة المستخدمة مع شهادة: «مجربة في المعارك على الغزّيين».
تُقلّب قطعة اللّحم على نار «الغريل» حتى تستوي، ثم توضع بين قطعتي الخبز، ويضاف إليها المطيّبات، تُلف وتقدّم إلى الزبون في ورقة تحمل اسم ماكدونالدز. وفي تناظر تُقلّب الأجساد على الأرض المحروقة، في عالمٍ مختلٍّ لا يستوي، لتُنتشل من بين الركام، ثم توضع على الحمّالة وتُضاف إليها المطيّبات، وإن لم تنجُ تُلفّ وتقدّم إلى الدفن بكفن يحمل اسم: «المساعدات الإنسانية العربية». إن كان رونالد ماكدونالدز من عوامل جذب الأطفال إلى التهافت على الـ«هابي ميل» حيث السعادة المؤقتة، فإسرائيل تقِلّ الأرواح المتهافتة حيث الراحة الأبدية.
غير أن ماكدونالدز بات عدواً واضحاً وصار التنصل من «الرغبة فيه» ضرورياً. على هذا النحو، انطلقت من العالم العربي حملة مقاطعة وشملت العالم الغربي. أصدرت فروع عدّة بيانات تبرٍّ ممّا قام به فرع الصهاينة، وقدّم بعضهم تبرّعاتٍ ماليّةً إلى أهالي غزة. لكنّ المقاطعة استمرّت، وتوطّدت، ففي حالة العجز التي يشعر بها المواطن أمام هول المجازر في غزة، جاءت البيانات تأكيداً على جدوى المقاطعة وتأثيرها، فشعر بالإنجاز والتحقّق، شعر أنه يقوم بشيء، أو في عدم القيام بالشيء (عدم ارتياد فروع ماكدونالدز هنا) جدوى، وهكذا باتت فروع جل المؤسسات الأميركيّة خاوية، وتهاوت أسهمها.
ماكدونالدز تعتمد سيمترية الحرف «M»، لكن المخ معكوف، وقد تبدّى. الحقيقة أن المؤسسة ليست سيمترية، بل هي أقرب إلى الشرير الخارق غريم باتمان، «هارفي دنت» الذي يمتاز بوجهين، وقد ظهر الفارق فجّاً في الآونة الأخيرة، إذ استدار «هارفي دنت» وظهر كامل وجهه. وقد دخلت بعض فروع ماكدونالدز في عجز إثر المقاطعة، وتراهن ماكدونالدز على أفول المقاطعة، وتضغط بورقة العمال، و«العامل يصبح السلعة الأرخص، كلما صنع المزيد من السلع الرخيصة» وفق ماركس في مخطوطات 1844 تحت بند «الاغتراب».
وبالحديث عن المقاطعة، فإنها إن استمرّت بإمكانها أن تتحوّل إلى فرصة لتعزيز الإنتاج الوطني، وهي فرصة كذلك للمستثمرين العرب الذين تحصّلوا على «حق امتياز» ماكدونالدز وستاربكس وغيرهما، إذ بإمكانهم تحويل التهديد إلى فرصة عبر استثمار التجربة بعد تشرّب الأسلوب ومراكمة الخبرة لتوليد مشروع أصيل؛ «لوغو» واسم فيهما أصالة، والتخلّي عن التبعية وأسر «الاسم الناجح الذي يجذب الجميع» والعالم العربي مليء بالمصمّمين المبدعين. وبالمناسبة، استبدال منتج بآخر يحمل الغلاف نفسه مع تغيير طفيف على الاسم، ليس نفياً للتبعيّة، بل تأكيداً لها، وإقراراً بالعجز عن مضاهاة الجودة، لذا يجب نفض النسخ واللصق عن الرفوف، والإنتاج بجودة وأصالة.
أسهم الفلسطينيون في بورصة الموت التي أصبحت مرتفعة، 2.7 مليون محاصر في غزة. هم لا يخشون الموت بل يستخفون به، يقولون: «إن الموت عادة» وتصالحهم مع فكرته دليل دامغ على مدى عشقهم للحياة، فـ«شدّة توقّيه أشدّ من الوقوع فيه». وهم تخطّوا تقبّل الموت، باتوا يهزؤون به، وهو يستحي منهم. تتوالى الأيام وفلسطين لم تشهد أي مقاطعة مع الموت، والدماء التي ملأت عروق الأرض النابضة، أعادت السيلان إلى القضية التي سبق وشهدت جلطات معاهدات «السلام».